د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الصفعة في سياق ديمقراطي عريق

في النّهاية تبدو الحياة مفتوحة على كل شيء. ولعل حياة السّاسة مفتوحة أكثر على أحداث شتى قد لا تخطر على البال. فغير المتوقع بات مهيمناً على المتوقع إلى درجة يمكن القول فيها إنّ ما تعرفه الإنسانية في الوقت الرّاهن من الأحداث لم يكن يتوقعها أحد (جائحة «كورونا» مثلاً)، ورأينا كيف أن غير المتوقع هو الذي بات يحكم حياة القرن الحادي والعشرين، والحال أن العلم أوهمنا أننا أحكمنا القبضة على سيرورة الأشياء، ولكن الواقع فاجأ العالم بسلطة «غير المتوقع».
لنأتِ الآن إلى ما تعرض له رئيس الدولة الفرنسيّة إيمانويل ماكرون. فهي صفعة تدخل ضمن غير المتوقع أيضاً، حتى ولو كان العالم عرف ما يشبه هذه الأحداث ويذكره بها، ولكن مع ذلك، فإن هذه الصفعة تظل ضمن غير المتوقع الذي لا نستطيع التحكم فيه.
في مقابل ذلك، فإن هذه الحادثة لا يمكن فهمها إلا إذا تم إدراجها ضمن الشعبوية المشطة وانحرافاتها التي باتت تستهدف النخب بشكل عام ولا تعترف بالسلطات. طبعاً القيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان تمكّن المواطن من الاحتجاج والرفض والغضب والاستنكار، ولكنها لا تبيح العنف الذي هو أساس نضال الإنسانية من أجل الديمقراطية التي تعد مقاومة للعنف وممتصة ومروضة له.
نلاحظ أن هذه الأحداث العنيفة الصادمة غير المتوقعة رغم كل ما فيها، فإنها امتحان للديمقراطية ذاتها، وامتحان للنخبة السياسية وللشعب ومؤسساته أيضاً. ذلك أن مواقف الأحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب مارلين لوبان، تؤكد للعالم أن الديمقراطية في فرنسا ظاهرة عريقة، وأن مهد قيم الجمهورية فرنسي أيضاً. فزعيمة أقصى اليمين والمعارضة لماكرون لم تستغل الموقف للعب على فكرة أن الفرنسيين مستاؤون من حكم ماكرون وأن ذلك دليل فشله، أي أنّها لم توظف الحادثة لتصفية حسابات سياسية، بل إنّها أعلنت إدانتها ووصفت ما حصل بأنه غير مقبول ومرفوض، وبأن العنف مدان. وهكذا كان موقف كل المعارضة في فرنسا بين إعلان الإدانة والتضامن مع الرئيس.
وتبرز لنا هذه المواقف الديمقراطية مدى تشبع الطبقة السياسية الفرنسية بقيم الديمقراطية، وأنها تمتلك مَلَكَة التمييز بين المبادئ التي يدافع عنها الجميع وبين التنافس السياسي والاختلاف في التصورات والبرامج والآيديولوجيات.
وهذا الموقف ليس الأول الذي قامت به المعارضة مارلين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، حيث إنها قبل ما يقارب تسعة أشهر قالت، إنها تدعم إيمانويل ماكرون، ضد تصريحات صدرت ضده وضد فرنسا وتاريخها حينها.
وفسرت دعمها لماكرون وقتها بقولها «رغم وجود ملايين المسائل التي أختلف فيها مع ماكرون، فإنني أقف بحزم وراءه، ضد أي تهديدات أو تصريحات يمارَس من خلالها الاستفزاز...». اللافت للانتباه هنا، هو أن المعارض في ديمقراطية عريقة يميز بين الاختلاف في التوجهات ولكنه لا ينسى أن الرئيس المنتخب يمثل الدولة والوطن. لذلك؛ فإن لوبان دعمت ماكرون لأنها ضد الإساءة إلى فرنسا الدولة ورموزها. بمعنى آخر، فإن التربية العريقة على الديمقراطية وتراكم التجربة الديمقراطية على امتداد أجيال يمنح الطبقة السياسية مناعة ضد خلط الشخصي بالسياسي بالوطني والشخصي بما هو مبدئي.
ولنفرض مثلاً أن هذه الحادثة حصلت في بلد من بلداننا، وتحديداً في بلد انخرط في التجربة الديمقراطية، فإن المواقف ستوظف حسب العلاقة بضحية العنف، ويمكن أن تستثمر لتصفية الحسابات وتسجيل هدف سياسي خارج المرمى. كما يمكن أن نجد من يرفض ويستنكر فقط لأن الحاكم في نظره مقدس، أي أن تراث الثقافة الديكتاتورية هو الذي يرفض الحادثة والعنف ضد السياسي الحاكم وليست المسألة لاعتبارات قيمية ديمقراطية تقف ضد العنف مهما كان مأتاه وسببه والمستهدف له. ففي هذه التفاصيل يظهر الفرق بين الديمقراطي الحديث العهد ذي الخطوة الأولى في المشي، التي عادة ما يعقبها سقوط متكرر، وبين أن تنتمي فعلاً إلى ديمقراطية عريقة تجعلك تمتلك القدرة على التمييز بين ما يتصل بمبادئ الديمقراطية وما يستوجب الدفاع عنه في كل الحالات وبين المعارضة لأسباب سياسية تتعلق باختلافات حول التصورات السياسية للحلول.
إنّ الديمقراطيات لا تتساوى في الأهمية، وعامل الزمن وتراكم التجربة الديمقراطية هما اللذان يعتّقان القيم الديمقراطية. لذلك؛ فإن الحديث عن الديمقراطية يقترن آلياً بمسألة التربية بالمعنى السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي بشكل عام. وكما نعلم عملية التربية تشترط الوقت والمرور من مرحلة إلى أخرى. ولن نصبح ديمقراطيين إلا إذا تم هضم قيم الديمقراطية جيداً وتحولت إلى عنصر تكويني في فهم الأشياء وبناء المواقف وتحديد الرؤى. وكلما هضمنا المبادئ التي يجب أن تجمع كل المختلفين والخصوم وتكون تراثاً مشتركاً بينهم كانت مجابهة غير المتوقع أكثر يسراً ونجحت الديمقراطية في إعادة إثبات ذاتها.
هكذا قرأتُ الصفعة في سياق ديمقراطية عريقة مثل فرنسا.