رحلة في تاريخ فنان عبقري اسمه أورسون ولز

مئوية صاحب «المواطن كين»

أورسون ولز  -   مشهد من فيلم «المواطن كين»
أورسون ولز - مشهد من فيلم «المواطن كين»
TT

رحلة في تاريخ فنان عبقري اسمه أورسون ولز

أورسون ولز  -   مشهد من فيلم «المواطن كين»
أورسون ولز - مشهد من فيلم «المواطن كين»

في هذه الأيام، بات سهلا على أي فتى أو فتاة فوق الـ12 ودون الـ20 صنع فيلم ما. التقنيات الحديثة وعدم الحاجة إلى كاميرا سينمائية ولا إلى فيلم وتغيير عدسات وفرت الوسيلة لذلك. كل ما على الفتى الراغب في تصوير فيلم ما هو أن يخرج تلك الكاميرا من الصندوق الذي بيعت فيه. قراءة بعض الإرشادات ثم وضع عينه على العدسة والضغط على الزر. وفي أحوال كثيرة، فإن وضع العين لم يعد شرطا، ولا الكبس على الزر لتشغيل الكاميرا، بل ما عاد هناك ضرورة للكاميرا أساسا: يستطيع أن يخرج هاتفه ويصور به.
تقدم؟ بالكاد. تخلف؟ حتما. من يقبل العمل بهذه الطريقة لا يقدم على أكثر من فعل التصوير. من يريد الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك عليه، بكاميرا ديجيتال أو بكاميرا سينما، أن ينطلق وراء هذه الأدوات الجاهزة والحيل المتوافرة. وفي عالم اليوم، إن لم تكن عبقري كتابة أو إخراج، فإن كل ما تستطيعه هو أن تصنع تلك الصور المتتالية وتسميها فيلما وتسمي نفسك مخرجا.
في عام 1941 لم يكن أي من هذا التطور الآلي متوافرا، لكي تخرج عليك أن تتمتع بالدراية الكاملة لكل ما يتألف منه الفيلم السينمائي، أو بعبقرية طموحة أو بكليهما معا. أورسن ولز، المولود في 6 مايو (أيار) سنة 1915، كان من أولئك الذين احتووا الدراية والعبقرية والطموح معا. وعندما حقق أول أفلامه، وهو «المواطن كين» (Citizen Kane) لم يكن تجاوز الرابعة والعشرين من عمره. لجانب تحقيقه الفيلم كمخرج كتب السيناريو (مع هرمان مانكوفيتز) وقام بإنتاجه وبطولته.
لا أحد في هوليوود قبل ذلك الحين سمع عن مخرج دون الثلاثين. لكن ولز في ذلك السن المبكر لم يستطع فقط إخراج فيلمه الأول من إنتاج هوليوودي (شركة RKO Radio التي كانت من أكثر شركات هوليوود نشاطا آنذاك)، بل جعله أحد أهم أفلام السينما إلى اليوم. قلما، بل ونادرا، ألا يأتي ذكره بين أهم 5 أفلام لكل ناقد يستحق الكلمة في أي مكان من العالم.

* حمل شكسبير صغيرا
نستطيع فقط أن نتخيل شابا يدخل مكاتب الشركة المذكورة (التي أسسها 1928 جوزف ب. كندي وديفيد سارنوف الكائنة في نيويورك) وفي يده مشروع مكتوب يحمل اسم «المواطن كين» مبني على شخصية الإعلامي والناشر الأميركي ويليام راندولف هيرست مع تغيير الأسماء للنجاة من احتمالات رفع الدعوات القضائية. نتخيل فقط، ولا نعرف كيف تفصيليا، استطاع أن يقنع شركة الإنتاج بتمويل عمله وتبنيه وقبوله مخرجا. ميزانية الفيلم بلغت 686 ألف دولار (نحو 10 ملايين من دولارات هذه الأيام) والنتيجة فيلم حلق بعيدا فوق أي عمل سينمائي آخر في تلك الفترة.
كيف تم لولز إقناع الممولين بعمله؟ هل وضع رسومات لفيلمه تبين تفصيليا ما الذي يريد فعله؟ هل تحدث بحماس الشباب لدرجة أن رق قلب المستمعين وقرروا منحه الفرصة، أم فعلوا ذلك لكي يتخلصوا من إلحاحه؟ أم هو استخدم الحيلة في ذلك؟
أورسن ولز، المولود في بلدة تحمل اسما هنديا هو كينوشا في ولاية وسكونسون (وهو اسم هندي آخر)، دائما ما عمد إلى الحيلة. كان في الـ16 من عمره عندما كان في زيارة لمدينة دبلن في آيرلندا عندما توجه إلى مسرح «غايت» وقدم نفسه كنجم مسارح برودواي في نيويورك (من حسن الحظ أن الإنترنت والقدرة على جمع المعلومات كانا على بعد سنوات ضوئية من اليوم). ليس فقط أن أقنع مدير المسرح (هيلتون إدواردز) بمنحه الفرصة للتمثيل، بل سريعا ما أصبح فارسا بين مسرحيي «غايت» ولو أن هيلتون إدواردز لاحقا ما قال إنه كان يعرف أن ولز كان كاذبا في ادعائه أنه نجم برودواي، لكنه أعجب بحماسه.
بعد نحو عامين، حاول ولز الأمر نفسه في لندن، لكنه هذه المرة لم يجد عملا، وحين وجده لاحقا اكتشف أنه بحاجة إلى رخصة عمل وعندما لم يستطع الحصول عليها عاد إلى الولايات المتحدة. في عام 1933 تعامل مع شكسبير لأول مرة حين وضع سلسلة من الكتب المرسومة بعنوان «شكسبير الزئبقي» وفي العام ذاته وجد نفسه ممثلا في «روميو وجولييت» على أحد مسارح نيويورك. وفي العام التالي، بات لديه برنامجا إذاعيا (الإذاعة كان لها التأثير الثاني بعد السينما في ذلك الحين) في الوقت الذي داوم فيه التمثيل المسرحي مغيرا بنجاح على «هاملت» و«ماكبث» و- مرة ثانية - على «روميو وجولييت».
أورسون ولز، وهو لا يزال في العقد الثاني من عمره، حمل شكسبير معه أينما حط. على المسرح وفي الإذاعة حيث قدمه في النصف الثاني من الثلاثينات. لكن الأثر الكبير الذي تسبب في نجاح ولز الإذاعي كان تقديمه رواية ه. ج. ولز (لا قرابة) «حرب العالمين» (The War of the Worlds) على الأثير، متسببا بإشاعة الهلع من تعرض الولايات المتحدة إلى هجوم من العالم الآخر. السبب في ذلك المنحى التقريري والإخباري الذي عمد إليه أورسون منتجا ومخرجا، فخلال بثه الأحداث الخيالية، كان يأمر بقطع الإرسال وتقديم أخبار (ملفقة بالطبع) عن غزو خارجي. حيلته هذه أثمرت عن نجاح مطلق وذعر بعدما اختلط الأمر على كثيرين معتقدين أن الأمر حقيقة.

* قمم تعبيرية
«المواطن كين» كان قمة ولا يزال. ليس هناك من مبدع آخر في السينما استطاع إنجاز عمل مشابه له حتى الآن: سيرة حياة نصف مختلقة - نصف حقيقية حول مليونير كبير اسمه كين، دفع بطموحاته لتتجاوز سقف القدرات وانتهى مهزوما في حبه وفي طموحاته. لكن هذا ليس سوى جزء من الإبداع، الجزء الأكبر هو كيف أنجز المخرج عمله ذلك سواء من حيث مزج أساليب وأشكال تعبير (السرد الروائي، بعض الرسوم المتحركة، وبعض التسجيلي) كما من حيث استخدامه التصوير (للعبقري الآخر غريغ تولاند) والمونتاج (المخرج لاحقا روبرت وايز).
استخدم المخرج ومدير تصويره كاميرا سوبر 18 التي كان يمكن لها أن تؤدي العمل ذاته للكاميرا التقليدية 35 مم، لكنه زودها بعدسة عريضة. ثم ركزا على منح الصورة عمقا داخليا عوض أساليب إبراز كل شيء إلى الصف الأمامي أو جعل الخلفية خارج «الفوكاس». غريغ تولاند كان في أوج رونقه مستخدما أسلوب تصوير الفيلم نوار وولز كان سابقا لعصره بأجيال عندما صنع من كل مشهد فصلا خاصا به ولو ملتحما، في سياقه سرديا، بالمشهد التالي.
بعده واصل ولز تحقيق تحف أخرى ولو أن «المواطن كين» بقي أهمها: «عائلة أمبرسونز الرائعة» (1942)، «رحلة إلى الخوف» (1943)، «الغريب» (1946) و«عطيل» (1952) الذي نال ذهبية مهرجان «كان» في ذلك العام.
له 40 فيلما آخر، لكن ولز كان كثيرا ما تعرض إلى الإفلاس ماديا. باشر أفلاما وتوقف عنها. أنجز بميزانيات أقل مما تستطيع تحمل أفكاره. ضاع دربه عندما لم تعد هوليوود تثق به وتعتبر أنه حقق أفضل ما استطاع عبر إنجازاته الأولى. المخرج بيتر بوغدانوفيتش لاحظ أن «الجميع (في هوليوود وخارجها) كان يتغنى بأنه تناول العشاء مع أورسون ولز، لكن أحدا لم يدفع له دولارا واحدا لكي ينتج له فيلما».
توفي سنة 1985 حاملا ثقل أعماله المهمة تمثيلا وإخراجا وكتابة، لكنه غير قادر على تنفيذ كل ما حمله من أحلام وطموحات.. تماما كحال بطله

* في «المواطن كين»! الكلمة - السر
في نهاية «المواطن كين» يسقط كين (ولز) أرضا ويقول، بينما تتدحرج كرة زجاجية «روزبد»، كلمة بدت غريبة وغير متصلة لكن ذلك لم يمنعها من أن تبقى في البال كواحدة من أكثر كلمات الأفلام حفظا في التاريخ. أيضا من بين العبارات المثيرة في الفيلم قول كين (ولز) ردا على سؤال صحافي عما إذا كان مقبلا على الإفلاس كناشر: «دعني أرى.. ثروتي 70 مليون دولار، وإذا كنت أخسر مليون دولار في السنة فسأفلس بعد 70 سنة»!



8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
TT

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬
«من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة وإلقاء ما تيسَّر له من تعابير فرحٍ وثناء.

لا يختلف وضع العام الحالي عن الوضع في كل عام، فجميع آمال العاملين في هذه الصّناعة الفنية المبهرة يقفون على أطراف أصابعهم ينتظرون إعلان ترشيحات «الأوسكار» الأولى هذا الشهر. وحال إعلانها سيتراجع الأمل لدى من لا يجد اسمه في قائمة الترشيحات، وترتفع آمال أولئك الذين سترِد أسماؤهم فيها.

يتجلّى هذا الوضع في كل مسابقات «الأوسكار» من دون تمييز، لكنه أكثر تجلّياً في مجال الأفلام الأجنبية التي تتقدّم بها نحو 80 دولة كل سنة، تأمل كل واحدة منها أن يكون فيلمها أحد الأفلام الخمسة التي ستصل إلى الترشيحات النهائية ومنها إلى الفوز.

«ما زلت هنا» لوولتر ساليس (ڤيديو فيلمز)

من المسافة صفر

لا يختلف العام الحالي في شكل التنافس وقيمته بل بأفلامه. لدينا للمناسبة الـ97 من «الأوسكار» 89 دولة، كلّ واحدة منها سبق أن تنافست سابقاً في هذا المضمار. لكن المختلف هو بالطبع الأفلام نفسها. بعض ما شُوهد منها يستحق التقدير، والفرق شاسع بين ما يستحق التقدير وبين ما يستحق الترشيح والوصول إلى التّصفية.

الحلمُ في تحقيق هذه النقلة يسيطر على المخرجين والمنتجين العرب الذين نفّذوا أعمالهم الجديدة خلال هذه السنة وسارعوا لتقديمها.

من بينهم المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، الذي وفّر خلال العام الحالي فيلمين، واحدٌ من إخراجه بعنوان «أحلام عابرة»، والثاني بتوقيع 22 مخرجاً ومخرجة أشرف مشهراوي على جمع أفلامهم في فيلم طويل واحد بعنوان «من المسافة صفر»، وجميعها تتحدّث عن غزة، وما حدث فيها في الأسابيع الأولى لما يُعرف بـ«طوفان الأقصى». بعض تلك الحكايا مؤثرٌ وبعضها الآخر توليفٌ روائي على تسجيلي متوقع، لكنها جميعها تكشف عن مواهب لو قُدِّر لها أن تعيش في حاضنة طبيعية لكان بعضها أنجز ما يستحق عروضاً عالمية.

لا ينحصر الوضع المؤلم في الأحداث الفلسطينية بل نجده في فيلم دانيس تانوفيتش الجديد (My Late Summer) «صيفي المتأخر». يقدم تانوفيتش فيلمه باسم البوسنة والهرسك، كما كان فعل سنة 2002 عندما فاز بـ«الأوسكار» بصفته أفضل فيلم أجنبي عن «الأرض المحايدة» (No Man‪’‬s Land). يفتح الفيلم الجديد صفحات من تاريخ الحرب التي دارت هناك وتأثيرها على شخصية بطلته.

«صيفي الأخير» لدانيس تانوفيتش (بروبيلر فيلمز)

مجازر كمبودية

تختلف المسألة بالنسبة للاشتراك الصّربي المتمثّل في «قنصل روسي» (Russian Consul) للمخرج ميروسلاڤ ليكيتش. في عام 1973 عندما كانت يوغوسلاڤيا ما زالت بلداً واحداً، عاقبت السلطات الشيوعية هناك طبيباً إثر موت مريض كان يعالجه، وأرسلته إلى كوسوڤو حيث وجد نفسه وسط تيارات انفصالية مبكرة ونزاع حول الهوية الفعلية للصرب. حسب الفيلم (الاشتراك الثاني لمخرجه للأوسكار) تنبأت الأحداث حينها بانهيار الاتحاد السوفياتي و«عودة روسيا كروسيا» وفق قول الفيلم.

التاريخ يعود مجدداً في فيلم البرازيلي والتر ساليس المعنون «ما زلت هنا» (I‪’‬m Still Here) وبطلته، أيضاً، ما زالت تحمل آلاماً مبرحة منذ أن اختفى زوجها في سجون الحقبة الدكتاتورية في برازيل السبعينات.

في الإطار نفسه يعود بنا الاشتراك الكمبودي (التمويل بغالبيته فرنسي) «اجتماع مع بُل بوت» (Meeting with Pol Pot) إلى حقبة السبعينات التي شهدت مجازرعلى يد الشيوعيين الحاكمين في البلاد، ذهب ضحيتها ما بين مليون ونصف ومليوني إنسان.

وفي «أمواج» (Waves) للتشيكي ييري مادل، حكاية أخرى عن كيف ترك حكمٌ سابقٌ آثاره على ضحاياه ومن خلفهم. يدور حول دور الإعلام في الكشف عن الحقائق التي تنوي السلطة (في السبعينات كذلك) طمسها.

تبعات الحرب الأهلية في لبنان ليست خافية في فيلم ميرا شعيب «أرزة»، الذي يدور حول أم وابنها يبحثان عن سارق دراجة نارية ويتقمصان، في سبيل ذلك، شخصيات تنتمي إلى الطائفة التي قد تكون مسؤولة عن السرقة. هما سنّيان هنا وشيعيان هناك ومسيحيان أو درزيان في مواقع أخرى وذلك للتأكيد على أن التربة الطائفية ما زالت تنبض حية.

حتى كوريا الجنوبية ما زالت تحوم حول الانقلاب (وهي تعيش اليوم حالة مشابهة) الذي وقع في مثل هذا الشهر من سنة 1979 عندما اغتيل الرئيس بارك على يد رئيس شعبة الدفاع لي تايدو-غوانغ (أُلقي القبض عليه لاحقاً وأُعدم). هذا هو ثالث فيلم شاهده الناقد كاتب هذه الكلمات حول الموضوع نفسه.