سلطت النسخة الثانية من «مؤتمر المروية العربية» الضوء على ثقافة الصحراء، وأثارت النقاش العلمي في جوانب مختلفة للموضوع، بمشاركة مجموعة من المختصين الذين لهم جهود في محاولة تجاوز إشكاليات الاستشراق في مقاربته لنمط أصيل من أنماط الحياة العربية.
واحتفى المؤتمر في الورشة العلمية التي عقدها في مدينة الرياض، الاثنين، بجهود الباحث السعودي سعد الصويان النوعية في بحث موضوع الصحراء وأرشيفه، الذي وثق طرفاً من الحكاية الشفهية لاستكناه هذا الفضاء الفسيح. وكشف «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات»، الذي ينظم المؤتمر في نسخته الثانية، ضمن مشروعه البحثيّ الحضاري الذي ينهض به المركزُ لمعالجة الالتباسِ والتراجع الواقعين في مفهوم حضارة العرب، عن إتاحة أرشيف الصويان وإرثه التوثيقي لكل الباحثين والمهتمين بمتابعة بحث موضوع الصحراء واستكشافها.
الصحراء بين التهمة والإنصاف
احتلت مسألة ثقافة الصحراء مكانة مهمة في النقاشات العلمية في مختلف الحقول المعرفية، خصوصاً في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والدراسات الثقافية، وقد دشنت الأنثروبولوجيا الأوروبية هذه النقاشات عبر اهتمامها بدراسة حياة البدو منذ القرن التاسع عشر. وطور المخيال الأوروبي صورةً رومانسيةً عن البداوة في العالم العربي ونظم عيشها، خالطاً بينها وبين التنظيم الاجتماعي السياسي القبلي، وشملت هذه الدراسات بيئة الطبيعة البدوية والنشاطات الاقتصادية المرتبطة بالبداوة، والتنظيم القبلي وبعض الجوانب الثقافية كالعادات والتقاليد والشعر والحكاية وغيرها، إلا أن الكثير من هذه الدراسات الاستشراقية التي أنتجتها المعرفة الغربية الحديثة تفتقد للحس التاريخي، وتنظر للبدوي ولحياته في الصحراء بشكل جوهراني، وباعتبارها نمط حياة مبايناً للتقدم والتحضر.
وقال أستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا السعودي أبو بكر باقادر، إن الصحراء وكل ما يتصل بها يعارض ما تُنتقد به، هي حضارة شفاهية، وشدد موجهاً حديثه إلى الأكاديميين: «أرجوكم اتركوا الثقافة الصحراوية على شفاهيتها، لأنه نص عربي تراكمي، ولا يقبل غير ذلك، نص ليست فيه قطعيات، ولا تلغي فكرة جديدة فيه أخرى قديمة». وأشار باقادر إلى أن الملفت في الثقافة الصحراوية العربية هو أنها تتراكم طبقات بعضها فوق بعض، بحيث تستحضر بعضها بشكل دائم، وأن الإنسان العربي في صحرائه أقرب إلى الاختلاء بنفسه، وهذا مدعاة للإبداع والتفرد، في ظل هذه الصحراء دائمة التغيير، وهو أمر غريب، حسب وصفه، لأننا نتوقع أن تكون شيئاً ثابتاً وأزلياً ومستمراً، لكنه متغير في واقع الحال. وأضاف: «الصحراء أمرها عجيب، والتنوع في تضاريسها ومناخها وبيئتها، متميز، وذو دلالة وأبعاد، ولها وقعه في نفس كل من عرف الصحراء أو اتصل بها بحثاً أو معايشةً».
إرث الباحث الصويان
واحتفت ورشة ثقافة الصحراء في أحد محاورها بجهود الأكاديمي سعد الصويان، وهو باحث مختص في الأنثروبولوجيا والتاريخ الشفهي والشعر النبطي، وقال قاسم الرويس إن الدكتور الصويان منذ تقاعده من الجامعة، والتحاقه بـ«مركز الفيصل» عام 2016 شعر بدافع جديد لإعادة الاعتبار إلى جهوده البحثية الفريدة. وأشار الرويس أن الصويان عمل مع «مركز الملك فيصل للبحوث»، مستشاراً، وأشرف على إنشاء وحدة الذاكرة السعودية، لتوثيق وحفظ التاريخ الثقافي والاجتماعي والفني في السعودية، وتنفيذ دراسات من منظور أنثروبولوجي.
واستلمت الوحدة التابعة لـ«مركز الملك فيصل»، إدارة مكتبة الباحث الصويان ومجموعته الفوتوغرافية والصوتية، بالإضافة إلى مجموعات أخرى مماثلة، لافتاً إلى أن الوحدة فريدة من نوعها، ولا توجد لها إلا نظائر محدودة في العالم، وتتاح محتوياتها للباحثين والأكاديميين في مجالات التاريخ الشفهي والقبلي والعادات والتقاليد في السعودية، وما اتصل بهذا التراث من تفاصيل مختلفة. وتهدف الوحدة التي تعد مرجعاً للتراث غير المادي في الجزيرة العربية، وفي ثقافة الصحراء تحديداً، من خلال حفظها لأصول نادرة للموروث الشعبي وثقافة الصحراء، إلى تمكين الباحثين والسعي إلى التعريف بالموروث الثقافي والاجتماعي لسكان شبه الجزيرة العربية، وتوثيق التاريخ الاجتماعي للسعودية.
وتوفر الوحدة قائمة بيانات تشمل الكتب والمواد السمعية والبصرية وقواعد البيانات الببليوغرافية، وخدمات الباحثين بعد إدراج جميع مواد الصويان وفهرستها، سواء الكتب أو المواد السمعية والبصرية، ويمكن لأي باحث وفقاً لقواعد الاطلاع بالمركز أن يزور الوحدة ويستفيد من مجموعة الكتب المتخصصة النوعية والنادرة، التي تضم حوالي 2447 كتاباً عربياً، ونحو 1820 كتاباً باللغة الإنجليزية واللغات الأخرى، ونحو 97 مخطوطة للشعر النبطي، كما تضم المجموعة الصوتية للدكتور الصويان التي سجلها منذ عام 1403 للهجرة حتى عام 1410، وتحتوي على كتاب أيام العرب الأواخر، وتحتوي على 585 تسجيلاً، تضم 378 ساعة، ومجموعة أخرى من التسجيلات والصور الفوتوغرافية الغنية بالمعلومات والأرشيف الثري والفريد.
وأشرف الدكتور الصويان شخصياً على فهرسة التسجيلات وفق منهج وفهرسة معينة قبل إدراجه في قواعد المعلومات، وتبنى المركز مؤخراً خطوة جديدة للاستفادة من هذه الثروة التوثيقية، وهي تفريغها نصياً وحرفياً، وقد أنجز تفريغ نحو 100 ساعة تقريباً جاءت في نحو 2000 صفحة.