فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

لعبة جديدة بـ«مجموع صفري»

مصطلح «لعبة المجموع الصفري» يستخدم في نظرية اللعبة. أذكّر هنا أن هذا يعني حالة غالباً ما يتم ربطها في العمل أو السياسة مع لعبة أو رهان بين شخصين أو أكثر، حيث يكون ربح أحدهم مساوياً للخسارة. أبسط مثال يُعطى عادة من الحياة اليومية، يتعلق بالدفع لسيارة أجرة: دخلُ شخص ما هو خسارة لشخص آخر. بمعنى آخر، المكاسب يطرح منها الخسائر تعطي نتيجة صفرية، أي إذا فاز أحدهما، فسيخسر الآخر بالتأكيد. وهما لن يكونا قادرين على الفوز معاً، ولا على الخسارة معاً أيضاً. من الواضح أن هذا الوضع متضارب. أما إذا كان بإمكان مشاركين الفوز أو الخسارة معاً، فستكون «لعبة محصلتها ليست صفراً» أو «لعبة ذات مجموع غير صفري».
في الفترة التي كان فيها العالم ثنائي القطب، كانت قواعد «لعبة المجموع الصفري» هي المهيمنة في جزء كبير من مجال العلاقات الدولية. ودول الشرق الأوسط كانت رهينة لهذا الوضع، حيث استخدمها الخصوم العالميون كأوراق في هذه اللعبة. يجدر القول، إن لاعبي الشرق الأوسط أنفسهم حاولوا، ونجحوا أحياناً، في استغلال المواجهة بين مركزي العالم ثنائي القطب لصالحهم.
كانت نهاية الحرب الباردة والعالم الثنائي القطب تعني نهاية «لعبة المجموع الصفري» العالمية، وبدا أن الشرق الأوسط أصبح قادراً على أن يتنفس الصعداء، لكن اتضح فيما بعد أنها كانت مجرد فترة راحة مؤقتة. رغم حقيقة أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، إلا أنه بات يواجه المزيد والمزيد من التحديات الجديدة والمشتركة، والتي تتطلب التكاتف والتعاون. وبدأت مرة أخرى تلوح في الأفق، ومن ثم سرعان ما اكتسبت شكلاً ملموساً، لعبة كانت معروفة لنا جيداً منذ العصور السابقة. فإذا نظرنا اليوم إلى الصراعات القديمة والمعقدة التي لم تلق حلاً في الشرق الأوسط وكذلك الجديدة منها، فيمكننا رؤية عناصر «لعبة المجموع الصفري» تتجلَّى في العلاقات بين اللاعبين من المستويات الثلاثة: المحلي والإقليمي والعالمي، الذين تتعارض مصالحهم في هذه الصراعات على المستويات نفسها، بما في ذلك عندما يكونون أنفسهم متورطين فيها.
لا يتطلب الأمر الذهاب بعيداً للحصول على أمثلة على ذلك، فهي معروفة جيداً للجميع. على سبيل المثال لاحظ بعض زملائي الروس الخبراء في المنطقة، أن عدداً من ممثلي الأطراف المتصارعة في سوريا، وللأسف، وقعوا تحت تأثير قواعد «لعبة المجموع الصفري»، مما يعقد العملية التفاوضية. بما أنني كنت من المشاركين في جهود الوساطة الدولية، كعادتي، لن أعبر عن رأيي في هذا الشأن.
لنلقِ نظرةً على ليبيا، حيث يبدو أن هناك بصيص أمل في نهاية نفق طويل ومظلم للغاية. كما هو معروف، قبل عدة أيام اختار منتدى الحوار السياسي الليبي في سويسرا رئيس وزراء ليبيا عبد الحميد الدبيبة وثلاثة أعضاء مجلس رئاسي برئاسة محمد المنفي، والذين سيقومون بالإعداد للانتخابات الوطنية التي طال انتظارها في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021 مما سيساعد في نهاية المطاف على توحيد البلاد.
استقبل مجتمع الخبراء الروس بحماس كبير نبأ بدء عملية التسوية. ومع ذلك، بما أن الأحداث «على الأرض» في الماضي دفنت أكثر من مرة أكثر الخطط التي كانت تبدو واقعية، فإن تفاؤل المحللين حذر إلى حد ما. إذ أعرب أحدهم، بشرط عدم الكشف عن هويته، عن رأي مفاده أن الوضع في البلاد حتى الآن يشبه إلى حد ما، الوضع الذي لوحظ فيها قبل وصول حكومة الوفاق الوطني إلى طرابلس، لا بل وأكثر تعقيداً بسبب تعمق الاستقطاب في المجتمع، وتدهور الوضع الاقتصادي، ووجود قوات أجنبية على الأراضي الليبية.
كما يشير الخبير إلى أن عدم وجود أي اتفاقات بشأن إصلاح القطاع الأمني، وغياب النقاش الجاد حول مستقبل الشرطة، سيؤديان إلى استمرار التنافس بينها. وقد أظهرت هذه الفئات بعد أن حصلت في السنوات الأخيرة على الخبرة العسكرية، وحتى على الخبرة السياسية أيضاً، قدرة عالية على التكيف مع أي ظروف، واستعداداً للدفاع عن مكانٍ لها ليس في النظام السياسي للبلاد فحسب، بل وفي اقتصادها أيضاً.
خبير آخر لم يرغب في التعريف عن نفسه يثير الشكوك حول مبدأ تشكيل الحكومة على أساس إقليمي. وبالفعل، ونظراً لغالبية القوى الغربية في التشكيلة الجديدة للحكومة، ومن دون إصلاح قطاع الأمن، فإن النتيجة التي تم التوصل إليها، مع كل جوانبها الإيجابية، يمكن أن تفتح الباب أمام اشتباكات جديدة قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تفكك البلد.
يستشهد محلل آخر برأي زملاء أجانب مرموقين من دون كشف هويتهم، في إشارة إلى العديد من الشائعات حول شراء الأصوات والتلاعبات الفاسدة الأخرى، التي يُزعم أنها ارتكبت خلال الحوار الوطني وتقوّض شرعية فوز «قائمة الدبيبة». لكن مثل هذه الشائعات والاتهامات تظهر في العديد من البلدان، حتى تلك التي تتمتع بسمعة قوية على أنها ديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الانتصار، حسب رأيه، يؤدي إلى تفاقم الانقسام في البلاد ويهدد بزعزعة الاستقرار؛ حيث إن خسارة عقيلة صالح، ستقوي خليفة حفتر، رغم أن تعزيز موقع حفتر ليس مرهوناً فقط بعقيلة صالح، الذي يحظى بدعم قبيلة العبيدات، وإنما بقوى أخرى في برقة أيضاً. أما هزيمة فتحي باشاغا فتعني تعزيز مواقع ميليشيات طرابلس. وعليه، فإن ذلك سيساعدهم على استعادة المواقع التي فقدوها في الأشهر الأخيرة. في الوقت نفسه، لا يمكن اعتبار عقيلة صالح وفتحي باشاغا ولا حتى فايز سراج أيضاً، خارج اللعبة السياسية، ذلك لأن لكل منهم دعمه الخاص على الأرض وفي المجتمع الدولي. أما بالنسبة للسراج، فلم يجرؤ أحد حتى الآن على التنبؤ بمكانه في الاصطفاف السياسي الجديد في البلاد بعد بدء عمل السلطة التنفيذية الجديدة.
يسألني الخبراء: ألا يمكن أن تجري الأمور على نحو يخاطر فيه المجتمع الدولي، بدلاً من التوحيد السياسي الوردي الذي ألهمنا جميعاً، بوقوع جولة أخرى من التنافس بين الجماعات العسكرية والسياسية المفتتة في ليبيا؟ ألن تكون هذه ضربة أخرى لسمعة جهود الوساطة الأممية؟ لكن مَن، إن لم تكن الأمم المتحدة، ذلك لأن الأطراف الخارجية منقسمة للغاية، واليوم أكثر من الأمس؟ في سياق «لعبة المجموع الصفري» سيئة السمعة أود أن أشير إلى أن الولايات المتحدة غير راضية بشكل واضح عن نتائج الانتخابات فقط لأنها، بحسب الدبلوماسيين الأميركيين، يمكن أن تؤدي إلى تعزيز موقف روسيا.
من الواضح أنه من أجل إنجاح عملية التسوية السلمية، من الضروري إقامة تفاعل بناء بين جميع اللاعبين العالميين والإقليميين المنخرطين فيها، والتأثير على أطراف الصراع الليبي لاستبعاد إمكانية تجدد المواجهة العسكرية، وحثهم على المضي قُدماً نحو تجسيد الاتفاقات التي تم التوصل إليها.
أتذكر كيف أشار سيرغي لافروف قبل حوالي عام، وهو يتحدث في اجتماع مخصص للذكرى التسعين لميلاد السياسي والعالم الروسي البارز، الرئيس السابق للحكومة يفغيني بريماكوف، أن هذا السياسي، كونه معارضاً مبدئياً لـ«لعبة المجموع الصفري»، ينطلق دائماً من فرضية أنه من دون تعاون واسع بين الدول لن يكون من الممكن التغلب بشكل فعال على العديد من مشاكل عصرنا، وأن الاختلافات القائمة يجب ألا تكون عقبة أمام العمل المشترك لحل الأزمات والصراعات، ولمكافحة التهديدات المشتركة مثل الإرهاب وتهريب المخدرات والجريمة المنظمة وانتشار أسلحة الدمار الشامل. واليوم، تشغل المصالحة طويلة الأمد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أحد الأماكن الأولى من بين هذه المهام الملحة.