كنت في مبنى وزارة الدفاع الأميركية صبيحة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لعام 2001، وكنت عميداً بحرياً حديث الترقي، وأعمل في مكتبي الواقع إلى جانب المبنى الذي اصطدمت به الطائرة المخطوفة بواسطة عناصر تنظيم «القاعدة». وفي اليوم التالي، وصل الرئيس جورج دبليو بوش إلى وزارة الدفاع، وقام باستدعاء كبار قادة الجيش بالزي الرسمي. وكان مبنى الوزارة آنذاك غارقاً في روائح النيران ووقود الطائرات المحترق. ثم نظر السيد الرئيس في أعيننا وقال: «تذكروا هذا جيداً، ولا تنسوه أبداً».
ومن ثم بدأت ما صارت تُعرف لاحقاً باسم «الحرب العالمية على الإرهاب»، التي استمرت مجرياتها طيلة ثلاثين عاماً كاملة ضد فلول تنظيم «القاعدة»، وجماعات أخرى مثل تنظيم «داعش» الإرهابي، و«بوكو حرام» النيجيرية، و«الشباب» الصومالية.
وعلى نحو مماثل، في اليوم التالي على حادثة اقتحام مبنى الكابيتول هيل في الولايات المتحدة مؤخراً، أعتقد أنَّه كان بإمكان الناس شم رائحة الغازات المسيلة للدموع، ومشاهدة القمامة المتناثرة من بعض المتمردين، التي لا تزال مبعثرة حول واحد من أقدس المواقع الديمقراطية في الأمة الأميركية بأسرها.
الصور التي سوف أذكرها لن تُمحى من ذاكرتي على الإطلاق: حمل علم الكونفدرالية بكل فخر عبر قاعة الكابيتول المستديرة، والعلم الوطني الأميركي الذي فاقت أعداده الرايات المؤيدة لدونالد ترمب في أراضي الكابيتول، والمشهد البغيض والمثير لكل اشمئزاز لأحد المتمردين وهو جالس في عبث واضح على كرسي نائب الرئيس في مجلس الشيوخ.
يتعيَّن على الشعب الأميركي تذكر هذه الصور بكل قوة، ذلك لأنها تعكس الإرهاب المحلي بكل وضوح وبساطة. وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإننا في حاجة حقيقية إلى خطة متماسكة ومعززة للتعامل مع تحديات الإرهاب الداخلي، تلك الخطة التي تجمع بين مناهج القوتين الصلبة والناعمة. وبعض من تلك المناهج عرفناها بالأسلوب الصعب العسير على مدار العقدين الماضيين عبر الصراعات المتتالية مع الأعداء في الخارج.
والمفهوم الرئيسي في هذا السياق يدور حول الحاجة إلى التمييز الواضح بين الإرهابيين المحليين الفعليين - وهم مجموعات تفوق العرق الأبيض العنصرية التي تنفذ أعمال العنف غير القانونية، على سبيل المثال - وعناصر الاحتجاج الشرعي القانوني. كما أننا في حاجة إلى توضيح الحد الفاصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية، وبين أولئك الذين نختلف معهم سياسياً وغيرهم ممن يشاركون في أعمال الشغب والعنف والتمرد الداخلي. لسوف يكون هذا الخط الفاصل رقيقاً للغاية في بعض الأحيان، غير أنه يتعيَّن علينا احترامه. وعلى وجه الخصوص، علينا الاعتراف الصريح بأن هؤلاء هم مواطنون أميركيون في المقام الأول، بصرف النظر عن أفعالهم المزعومة، كما أنهم يحتفظون بكل الحقوق والامتيازات ذات الصلة بنظام المحاكم والقوانين المعمول بها لدينا.
ولما وراء احترام هذا المبدأ الجوهري، فإنَّ العناصر الأساسية في التعامل مع الإرهاب المحلي تشتمل على كثير من التكتيكات نفسها، والأساليب، والإجراءات التي نستعين بمثلها في التعامل مع التمرد المسلح ومواجهة التنظيمات الإرهابية في خارج البلاد.
أولاً، نحن في حاجة إلى أنظمة قوية لجمع المعلومات الاستخبارية والدمج والتكامل. وهذا يعني مشاركة كل آليات إنفاذ القانون المحلية في الولايات المتحدة تحت إشراف النظام القضائي الأميركي.
ويتعيَّن على الوكالات المحلية والفيدرالية المشاركة في تلك الجهود - وهي: مكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة العدل، ووزارة الأمن الداخلي، والمركز الوطني لمكافحة الإرهاب، والمركز الوطني لمعلومات الجريمة، وما إلى ذلك - العمل على مشاركة البيانات، وتنضيد المعلومات تقنياً، ونقلها بصورة متماسكة إلى المستخدمين من هيئات إنفاذ القانون في خطوط المواجهة الأمامية. ويجب على جهات الاستخدام تلك، بطبيعة الحال، تلقي المعلومات على محمل الجدية البالغة، والتصرف وفقاً لها في الوقت المناسب وبالأساليب الفعالة. ومن الواضح تماماً فشل هذا النموذج في الفترة السابقة على تعرض مبنى الكابيتول هيل للهجوم. غير أنَّ التكامل الأمثل للمعلومات الاستخبارية كان من الدروس القاسية التي تعلمناها من أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وكان احترام ذلك التكامل هو السبب الرئيسي في عدم تعرض البلاد مرة أخرى لهجوم إرهابي محلي كبير منذ ما يقرب من عقدين من الزمان وحتى الآن.
يمكن تسمية العنصر الأساسي الثاني «جانب القوة الصلبة» من معادلة المواجهة. وهو يمثل الطاقة التي تستغلها وكالات إنفاذ القانون في ملاحقة مرتكبي أعمال العنف والشغب في الداخل. وهناك تحذير واجب: تماماً كما الحال في مكافحة الإرهاب الدولي، لا يمكننا حرق الجهود من أجل النجاح، وفي مواجهة الإرهاب الداخلي في البلاد لا يمكننا القفز على النتائج من أجل بلوغ الغاية. ولكن ينبغي فصل قادة التمرد عن الأتباع، وتقديم أمثلة جادة من خلال الملاحقات الصارمة، وأحكام السجن طويلة الأمد، وتخصيص الموارد الكبيرة فيما يشير إليه تطبيق القانون بأنه «جانب الاعتقال والإدانة والسجن» من معادلة المواجهة المذكورة.
إنَّ السرعة والفاعلية الجديرة بالإشادة في السلسلة الحالية من التحقيقات والاعتقالات التي قامت بها كل من وزارة العدل رفقة مكتب التحقيقات الفيدرالية في أعقاب أحداث السادس من يناير (كانون الثاني) الجاري هي أبلغ مثال على القوة القانونية الصارمة الموجهة ضد حركات الانفلات الداخلي. وهناك ملاحظة مهمة تتعلق بأنَّ السجون الأميركية هي عبارة عن بؤر للعصابات الإجرامية العنيفة، والعديد من تلك العصابات لديها أجندات سياسية بغيضة - ومن ثم أمامنا عمل كبير ينبغي القيام به داخل الجدران، بُغية كسر الهياكل الداخلية في السجون التي تخلق مزيداً من مستويات العنف والتطرف العليا والمتطورة.
والأهم من ذلك على المدى البعيد هو الاستعانة بجانب القوة الناعمة في المواجهة الداخلية. تماماً كما كنت في حاجة إلى كسب قلوب وعقول المواطنين الأفغان زمن قيادتي لقوات حلف شمال الأطلسي ضد حركة «طالبان»، فإنَّ أمام قادتنا السياسيين على كل المستويات - البلدية، والولايات، والفيدرالية - مهام حيوية يقومون بها في مجالات التعليم، وخلق فرص العمل، والبنية التحتية، وهزيمة الوباء الراهن، وعدد آخر لا يُحصى من المظالم المشروعة الأخرى التي لا تزال تغذي محاضن الإرهاب الداخلي في البلاد.
في الولايات المتحدة، في المتوسط، فإننا نمنح الأطفال هاتفاً ذكياً عند بلوغهم 10 أو 11 عاماً من العمر. ومع ذلك فإنَّنا لا نقدم لهم التدريب اللازم على كيفية استخدام الهاتف الذكي، من حيث إمكانية التمييز بين الأكاذيب الخبيثة ونظريات المؤامرة البغيضة والتقارير الإخبارية الصادقة. وعلى نحو مماثل، عندما يفقد البالغون الوظائف، أو يواجهون وباء فتاكاً يومياً، أو يشاهدون سلسلة مؤلمة من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والعرقية المستمرة، تزداد ميولهم للانضمام إلى التجمعات المتطرفة المناوئة. وبرغم ذلك، فإنَّنا لا نعطيهم أي أدوات للتحصين ومقاومة مثل هذه التنظيمات. ويعد التعامل مع هذه القضايا المهمة - على سبيل المثال، من خلال مزيد من التربية المدنية في المدارس مع حملات الخدمة العامة واسعة النطاق عبر وسائل الإعلام المختلفة - من المهام بالغة الصعوبة وبأكثر مما يفرضه جانب القوة الصلبة في معادلة المواجهة.
أخيراً، يمكن للتكنولوجيا أن توفر لنا المساعدات الكبيرة. ومن الأمور بالغة الأهمية هي التعامل مع خطاب الكراهية عبر شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة، تماماً كما الحال مع التخلص من مقدرة العناصر المتطرفة غير المقيدة على تجنيد الأتباع والدعاية، إلى القيام بأعمال عنف جديدة عبر مختلف المنصات الاجتماعية ذاتها. ووصلت شركات التكنولوجيا العملاقة إلى إدراك مفاده أنَّه يتعيَّن عليهم التعاون فيما بينهم ومع هيئات إنفاذ القانون في البلاد بهدف الإقلال من إتاحة الأدوات أمام عناصر الإرهاب المحلية.
لقد تعلَّمنا تلك الدروس بالطريقة العسيرة من خلال مشاهدة تنظيمي «القاعدة» و«داعش» الإرهابيين وهما يتلاعبان بمختلف مصادر شبكة الإنترنت بخبرة واضحة. وكان من بين الأساليب المهمة المستخدمة في مواجهتهم وهزيمتهم على الفضاء السيبراني، ليس مجرد إغلاق المواقع المتطرفة، وإنَّما أيضاً إعادة توجيه عمليات البحث. وهناك كثير من العمل الذي ينتظر القيام به في هذا المجال.
غير أنَّه لا شيء مما تقدم سوف ينجح بكل يقين، على الأقل ليس بالسرعة المتصورة لدى البعض، تماماً كما أظهرت لنا الصراعات الجارية في كل من العراق، وسوريا، وأفغانستان. ولكننا شهدنا هزيمة حركات التمرد في سريلانكا، وكولومبيا، وكينيا، وبلدان أخرى حول العالم. والواقع أنها عملية طويلة الأمد تستلزم كثيراً من الصبر، وتخصيص الموارد، والتخطيط السليم.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»