د. ياسر عبد العزيز
TT

الاعتداء على ترمب

لست من مؤيدي الرئيس الأميركي دونالد ترمب، واتفق مع كثيرين ممن رأوا أن وجوده على رأس أقوى دولة في العالم يمكن أن يسبب مشكلات خطيرة وأن يضر بالاستقرار والسلم العالميين، ومع ذلك فإنني أعارض بشدة حظر حساباته على مواقع «التواصل الاجتماعي».
إن حرية الرأي والتعبير مفهوم جوهري وأساسي، وهو جدير بأن ندافع عنه بكل قوة، لكن السبب في معارضة حظر حسابات ترمب على «السوشيال ميديا» لا يعود إلى ذلك المبدأ، وإنما يرجع إلى اعتبارات أخرى، تتصل أولاً بنطاق صلاحيات تلك الوسائط المفترض، وتتعلق ثانياً بطبيعة جديدة اكتسبتها وباتت من خلالها آليات اتصال حكومي متكاملة الأركان.
في نهاية عام 2017 غرّد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون على «تويتر» قائلاً إن «الزر النووي موجود دوماً على مكتبي»، في إشارة إلى أن بلاده تحولت إلى قوة نووية، وأنه قادر على استخدام هذا السلاح ضد أي عدو بمجرد ضغطة على هذا الزر.
لم يترك الرئيس ترمب الفرصة تمر بطبيعة الحال من دون أن يغرد معلقاً على ما قاله خصمه الكوري الشمالي. ولذلك، فقد سارع إلى بث تلك العبارة على موقع التغريدات الشهير: «كيم جونغ أون قال لتوّه إن الزر النووي موجود على مكتبه دوماً، ألا يبلغه أحد في نظامه المتهالك والمتضوّر جوعاً بأنني أنا أيضاً لديّ زر نووي، ولكنه أكبر وأقوى من زره، وبأن زري يعمل».
لم يكن أحد يتصور أن يكون هذا هو نوع الخطاب المتبادل بين زعيمي دولتين في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة، لأنه خطاب بائس وسخيف، ولا يعكس حنكة السياسة أو أدبيات الدبلوماسية المرعية، لكنه على أي حال أتاح لنا أن نعرف أن تلك المنصات باتت وسائل اتصال سياسي لا يجوز منعها أو التعاطي معها بالمحددات ذاتها التي يُفترض أن يتبعها المستخدمون العاديون.
كان ترمب هو نفسه الذي غرّد، في شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2017، قائلاً: «ربما لم أكن لأصل إلى البيت الأبيض لولا (تويتر)»، قبل أن يصف مواقع «التواصل الاجتماعي» بأنها «منصة هائلة»؛ وهو الأمر الذي عكسته دراسات أجرتها مراكز بحوث معتبرة، حين أعلنت أن أكثر من ثلثي قادة العالم، يستخدمون «تويتر»، في بث رؤى، ومعلومات، بل وقرارات ذات طابع سيادي.
وفي أبريل (نيسان) الفائت، وجدت منصة «ستاتيستا» Statista الألمانية المتخصصة في معلومات «الإنترنت»، أن 187 دولة بات لها وجود رسمي على «تويتر» من خلال حسابات شخصية أو مؤسسية يديرها رؤساء دول وحكومات، وأن 97% من تغريدات الحكومة الهولندية على هذا الموقع جاءت في صورة ردود على مستخدمين آخرين، وأن حساب «خدمة العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي» (EU – EEAS) وحده أجرى 148 اتصالاً متبادلاً مع قادة العالم خلال عام 2019.
وقبل سنة، نشرت دورية «جورنال أوف بابليك هيلث»، عبر آلية نشر جامعة أوكسفورد، بحثاً أظهر أن الغالبية العظمى من قادة دول «مجموعة السبع» نشَّطوا حساباتهم على «تويتر» أخيراً لنشر معلومات بخصوص «كوفيد - 19». وقبل ذلك تم الإعلان عن تطورات سياسية حاسمة ومؤثرة مثل الاتفاق النووي الإيراني في 2015. عبر تلك المنصات؛ وهو الأمر الذي يثبت أنها أضحت منصات اتصال سياسي، تَجري عبرها أنشطة سياسية ودبلوماسية على أعلى مستوى وبكثافة وقدر من الفاعلية والثقة كبير. ليست مواقع «التواصل الاجتماعي» مجرد مواقع «تواصل اجتماعي»؛ فهي غدت منصات أعمال، ومنابر للنقاش العمومي، وأداة لتعزيز حظوظ المتنافسين في الانتخابات العامة أو تقليص فرصهم. والأهم من ذلك، أنها باتت تلعب دوراً رئيسياً في حمل رسائل السياسيين والقادة، والتواصل فيما بينهم وبين مجتمعاتهم ونظرائهم.
لقد تلقت تلك المنصات ضغوطاً وطلبات عديدة من أجل أن تحسن أداءها في مجال ضبط النقاش العمومي عبرها، بما يلزمه ذلك من منع الخطابات المحرضة والداعية للعنف والفوضى والمثيرة للكراهية. ورغم أنها تراخت كثيراً في ذلك، فإنها تُظهر اليوم رغبة وقدرة على لجم تغريدات ترمب ومحاصرة آرائه.
منع تغريدات ترمب ومحاصرته على تلك المنصات عمل غير محسوب؛ وهو يشير إلى دور جديد لتلك المنصات، وسلطة جديدة تجترحها، وقابلية كبيرة لأن تكون أداة مغرضة في صراعات السياسة. لا يمكن غلّ أيدي القادة الشرعيين والحكومات عن استخدام تلك المنصات، ولا يجب معاملتهم كمستخدمين عاديين، ولا يجب منعهم من التعبير واتخاذ القرارات ومخاطبة الجمهور، ولا يجدر أن يكون هذا المنع انتقائياً وباستخدام المكاييل المتعددة.