حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

غربلة سوق العمل

في ظل الأحاديث المتزايدة عن الآثار الاقتصادية المتتالية الناتجة من جائحة «كوفيد- 19»، يبدو جلياً أن سوق العمل هي المتضررة الكبرى.
فمع انحسار الحركة الاقتصادية، وزيادة حجم الركود، وإغلاق عديد من المنشآت أبوابها، وإفلاس عديد منها، باتت معدلات البطالة في مستويات قياسية غير مسبوقة. وهناك طرح جاد ومحترم لتعريف جديد مطلوب لمفهوم البطالة، مع توقع اندثار بعض الوظائف والمهن، وبروز الاحتياج الجديد لمهن «جديدة تماماً»، باتت بالتالي هناك ضرورة أن تتم إعادة هندسة للمفهوم التقليدي للوظيفة و«قيمتها»، وبالتالي كان لافتاً جداً قيام الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالتوقيع على أمر تنفيذي بالتركيز الأساسي على المهارات بدل الشهادات الجامعية، في اختيار الموظفين الحكوميين الفيدراليين، وذلك في نقلة نوعية جديدة في منهجية التوظيف، والتي من المتوقع أن تكون لها تبعات وآثار مترتبة على القطاع الخاص، وأيضاً على القطاع التدريبي والأكاديمي المرتبط بسوق العمل.
وفي كتابه البسيط والممتع «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي»، يقدم وزير المالية اليوناني الأسبق يانيس فاروفاكيس تعريفاً «مختلفاً» للبطالة، وذلك بقوله إن البطالة في حقيقتها لا وجود لها، ولكن المشكلة هي قبول العاطل عن العمل بوظيفة تدر عليه دخلاً مالياً «بأقل مما يتوقع»، أو بمعنى أوضح وأدق: أن العاطل عن العمل مشكلته ليست في عدم وجود وظيفة متاحة، ولكنه باختصار لم يجد الشخص أو الشركة المستعدة لدفع المقابل المالي الذي يطلبه. ويضع المقارنة هنا مع من يعرض منزله أو سيارته للبيع بسعر معين، ويشتكي من عدم وجود مشترين، ولكن الحقيقة أنه سيجد المشتري وبسرعة، متى عرض السلعة المستهدفة بسعر مغرٍ ومناسب. وبالتالي حتى البطالة وسوق العمل، من الضروري اعتبارهما سلعة تخضع لشروط العرض والطلب. تحكم الأجور ومعدلاتها ظروف السوق الاقتصادية.
سوق العمل تتعرض لتحديات عنيفة نتيجة الأتمتة وغزو الإنسان الآلي خطوط الإنتاج والتخزين. وتطور تقنية الذكاء الصناعي بشكل مذهل، أثر بشكل واضح على كفاءة وفعالية الإنتاج من جهة، ومن جهة أخرى مدى ضرورة «مساهمة» الشراكة البشرية والمجازفة بتذبذب «فعالية وثبات معدلات إنتاجياتها»، بالمقارنة مع البديل الآلي الأكثر اعتمادية.
معدلات البطالة في الولايات المتحدة قد تقرر نتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة، وهناك متابعة دقيقة لمعدلات البطالة الشهرية المعلنة، والتي باتت أهم مؤشرات الأداء الاقتصادي. وهناك تفاوت من شهر إلى آخر بحسب حالة انتشار جائحة «كوفيد- 19» وتأثيرها على قدرة إعادة انطلاق الاقتصاد، وبالتالي إمكانية إعادة التوظيف، ولكن من الواضح أن نمط الوظيفة التقليدي تغير، وأن أكبر الموظفين هم في قطاعات المأكولات والمشروبات (وليس قطاع التجزئة على سبيل المثال الذي تبدل بشكل تام وكبير). قواعد التوظيف تعاد هندستها لتصبح للمهارات «قيمتها» وللخبرة «أهميتها»، وبالتالي سيكون - وكما هو المفروض - الدور الأساسي لأهل «الكفاءة» وليس لأهل الثقة.
هناك دول تدرك «النقلة» الجديدة في سوق العمل، فقامت باستحداث وتعديل قوانين وأنظمة، مثل تغيير سن التقاعد وتأخيره، للاستفادة من مهارات وخبرات عدد غير بسيط من الناس، وكذلك إعادة تعريف الدوام، واعتبار العمل من المنزل جزءاً من دوام العمل، كما حكمت محكمة سويسرية مؤخراً على شركة هناك بأن تتحمل جزءاً من فاتورة الإنترنت والكهرباء المنزلي لأحد موظفيها؛ لأنه استخدمهما لصالح الشركة (وهذه سابقة مهمة ستصبح مكررة في دول أخرى حول العالم قريباً جداً على ما يبدو).
سوق العمل ستشهد تغييرات هيكلية حادة جداً، وهناك دول تعي ذلك جيداً، عكس من يواجه التغييرات الكبرى هذه بحلول وأدوات أرشيفية قديمة. عودة مهمة لقيمة النوعية المتمثلة في الخبرة والمهارة والكفاءة، وهذا ما كان مفتقداً لفترة طويلة لمفهوم الشهادة والفهلوة والثقة والوساطة.