لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

المغرب... أسئلة السوسيولوجيا في زمن «كورونا»

الحجر الصحي في المغرب الذي فرضته جائحة كورونا، قد يؤدي إلى تحولات في سلوكيات الناس وعلاقتهم بمؤسسات اجتماعية سياسية واقتصادية، وكذا علاقاتهم فيما بينهم كأفراد وجماعات. ولكن السؤال العريض الذي يطرح نفسه هو هل ستصبح هذه التحولات عميقة إلى درجة أنها سَتُحْدِثُ تغييرات بنيوية ودائمة في الأدوار والتصورات والعلاقات من شأنها أن تدفع رواد العلوم الاجتماعية وخصوصاً السوسيولوجيا إلى الاهتمام بها.
دور السوسيولوجيا في الوقت الراهن، وفي غياب دراسات ميدانية ترصد تحولات بنيوية دائمة، يبقى فقط على مستوى طرح الأسئلة ووضع تصورات ممكنة للواقع المتغير في أفق تأكيد ديمومتها عبر الزمن. وهنا نتكلم عن التحولات التي تتجاوز الحدث وتصبح سلوكاً وتمثلاً جديداً يمكن رصده بموضوعية وتجرد. فيما يلي أمثلة (غير حصرية) لبعض هذه التحولات الممكنة في الواقع المغربي الحالي والمستقبلي.
اهتمَّ علماء الاجتماع المغاربة بمفهوم الدولة وعلاقة السلطة بنظام الحكم وبالمجتمع.
مركزية «المخزن» ضمن البنيات السياسية المغربية، وكذا في المتخيل الثقافي الشعبي هي الميزة الأساسية لنظام الحكم المغربي منذ العصر الوسيط.
عوامل عدة ساهمت في ظهور أزمة على مستوى الدور التقليدي للمخزن-الدولة منها ظهور الإسلام السياسي، وانهيار جدار برلين وتوسيع دائرة الديمقراطية، وظهور جيل جديد غير متشبع لا بمقاومة الاستعمار ولا بالصراع على السلطة الذي مَيَزَ السنوات الأولى للاستقلال، ومخلفات سنوات التقويم الهيكلي، وتنامي غول العولمة، وثورات الربيع العربي...
فرضت الحداثة في كل تمظهراتها على الدولة التقليدية تَبَنِي موقف دفاعي تمثل في اعتماد مقاربة التناوب السياسي التوافقي، وبلورة مفهوم جديد للسلطة، والتصالح مع الماضي، وفتح الحقل السياسي، والقيام بإصلاحات سياسية واجتماعية لتوسيع قاعدة المشاركة، وتبني دستور جديد مبدأه الأساس هو تقاسم السلطة؛ وأخيراً، بلورة نموذج تنموي جديد لمواجهة أزمة الثقة بالدولة بالمؤسسات التابعة لها.
مع أزمة كورونا، عادت الدولة بقوة وبمباركة شعبية ومباركة الفرقاء السياسيين لتلعب دوراً محورياً في مواجهة الوباء من الناحية الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والجنائية. هل هذا يعني إعادة إنتاج لدور مؤسسة الدولة المغربية في علاقتها مع المجتمع؟ هل هذا يعني تكييفاً لأدوارها التقليدية مع الوضع الوبائي والاقتصادي الجديد أو تجاوزاً لبعضٍ من هذه الأدوار؟ كيف سينظر المواطنون والفرقاء إلى هذا الدور المتجدد، وهل هو إيذان بدولة رفاه جديدة؟ هل سيتغير مفهوم السلطة الذي تتبناه الدولة خصوصاً في ظل تنامي الطلب الشعبوي على مزيد من المقاربة اليعقوبية، وتواري الطلب على الممارسة الديمقراطية؟
هذه فقط جملة من الأسئلة السوسيولوحية التي يطرحها الوضع الجديد على دور وطبيعة الدولة المغربية. وهي تقريباً نفس الأسئلة التي يطرحها على مؤسسة العائلة. لقد جذبت هذه المؤسسة اهتمام علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في المغرب سواء في علاقتها بالقبيلة أو السلطة أو مجموعات مثل المرأة والشباب أو بالحقل السياسي، والتمثلات الثقافية أو بثنائية المجال العام والخاص. والأطروحة الأساسية التي كانت محط اهتمام الكثير من الدارسين هي تأثير تطور المجتمع الديمغرافي والسياسي والاقتصادي والثقافي على بنيتها (الانتقال من تركيبة قبلية إلى بنية باترياركية، ثم إلى بنية نووية) وعلى دورها في إعادة إنتاج علاقات السلطة والهيمنة السائدة في المجتمع.
تواري دور العائلة لصالح مؤسسات أخرى تقوم بالتأطير الاجتماعي والسياسي للمواطنين (مثل الأحزاب والنقابات والجمعيات والجامعة ووسائل الإعلام الجديدة) وظهور النزعات الفردانية خصوصاً مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وتراجع جاذبية مؤسسة الزواج، كلها أدت إلى انكماش دور العائلة في التربية والتأطير والتأثير، وتضاؤل دور الأب في خضم ظهور أدوار جديدة للمرأة والشباب، ونمو أشكال جديدة من الممارسات الاجتماعية غير المبنية على مؤسسة الزواج.
مع الحجر الصحي والعزل الاجتماعي في زمن كورونا ورجوع الكل إلى رحاب العائلة ولفترة طويلة، هل نشهد تجديدا لدور العائلة؟ مع انكماش الطابع الباترياركي للعائلة المغربية هل يعني هذا إعادة النظر في الأدوار وعلاقات السلطة داخل العائلة؟ وما هو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وانخراط أفراد العائلة داخل مجموعات افتراضية متعددة في عملية التجديد هذه؟ هذه كلها أسئلة تطرح نفسها بإلحاح، ومن شأن البحث الميداني تأكيد أو نفي الفرضيات التي تؤطرها. وهذا يعني كذلك إعادة النظر في ثنائية المجال الخاص والعام.
بعض منظري الدراسات الثقافية المغاربة والمتشبعين بفكر يورجن هابرماس ركزوا على التحولات التي يشهدها المجال العام في ظل العولمة، وانفتاح الحقل السياسي ودخول فاعلين جدد مثل المرأة والشباب والمجموعات الهامشية.
كما ركز الكثير منهم على أن المجال العام هو في طور التطور، ولم نصل بعد إلى تلك المجموعات البورجوازية المتخيَلة في التصور الهابرماسي، والتي تلتقي لمناقشة أمور ومصالح والوصول إلى توافق بشأنها.
وسائل التواصل الاجتماعي عززت التواصل بين المجموعات المفترضة، رغم أنها تعكس نفس الصراعات التي توجد داخل المجتمع؛ لهذا فهي تتطور شيئا فشيئاً إلى فضاء للنقاش (الشعبوي أحياناً والعقلاني أحياناً أخرى) والمرافعة له تأثيره الخاص على الحقل السياسي برمته.
ما يحصل في زمن الحجر الصحي هو استمرار نفس النقاش، ولكن من طرف مجموعات أعضاؤها قابعون في بيوتهم. قبل كورونا كان الأفراد يقتحمون المجال العام ويصورونه، ويتداولون بشأنه اجتماعياً وسياسيا. ما يحصل الآن هو نفس التداول، ولكن مع غربلة المضمون للمحافظة على «حرمة البيوت» أو تكييفه، لكي لا يحصل تداخل أكثر بين الخاص والعام، كما يتم إنتاج مضامين جديدة تقوم بنقد اجتماعي ساخر لأدوار الآباء والأمهات والأولاد في الفضاء المنزلي. هل هذا ينذر بتغيرات كبرى ودائمة في تصور المجال الخاص في علاقته مع العام؟ هذا ما سيجيب عنه أتباع هابرماس، خصوصاً رواد الدراسات الثقافية والنظريات ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثية.
وماذا عن إعادة إنتاج علاقات الهيمنة في ظل انفتاح الرأسمال الرمزي على شرائح متعددة من المجتمع المغربي؟ في الماضي ركز علماء الاجتماع، مستعملين نظرية عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، على دور المدرسة والإعلام واللغة والإنتاج الثقافي في إعادة إنتاج قيم معينة ملتصقة بجماعات وطبقات مهيمنة اقتصاديا واجتماعياً. الهيمنة الرمزية تعطي مشروعية للهيمنة الفعلية بل وتعيد إنتاجها في حُلَلِ جديدة وممارسات تبدو بعيدة وغريبة، كما بينت ذلك الدراسات السوسيولوجية النسائية. وعلاقات الهيمنة المعتمِدة على الرأسمال الرمزي لا تعيد إنتاج علاقات السلطة الاجتماعية فحسب، ولكنها تُحَوِل الثقافة المهيمنة إلى قاعدة مجتمعية عامة يُنتَظَرُ أن تنصهر فيها الأفعال الأخرى وأن تتوق إليها الممارسات الاجتماعية الأخرى.
بالفعل قوضت وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً من علاقة الهيمنة هذه بدمقرطة المعلومة، وضمان الولوج إلى الأفعال الثقافية «الراديكالية» (في غرابتها واختلافها عن القواعد العامة). ولكن ما زالت هناك تراتبية في اللغات والأفعال والمواقف السياسية والاجتماعية خصوصاً مع تفاوت نسبة الولوج واستعمال التقنيات بين الحواضر والمراكز الهامشية، والقدرة على صناعة المضامين وترويجها بين طبقات ومجموعات معينة.
في زمن الحجر، تساوت سلباً ونسبياً نسبة الولوج إلى الفضاءات التي تؤثث مضامين التواصل الاجتماعي. واستمر الخطاب الشعبوي الناقد للسلطة والهيمنة، ولكن في ظل رضى شبه عام عن دور الدولة والفاعلين. هل هذا يعني نفض غبار الشعبوية عن النقد اللازم والضروري لعلاقات الهيمنة الموجودة في المجتمع والحقل السياسي؟ هذا واحد من الأسئلة التي ننتظر أن تجيب عنها السوسيولوجيا، خصوصاً المهتمة بعلاقات الهيمنة في ظل الثورة الرقمية.