بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

قلقون من جونسون

لأول وهلة، خُيّل لي أن ما حمل صوت الصديق من هلع هو نوع من مبالغات ردود الفعل في كل مرة تصدم مفاجآت الأحداث معظم الناس، يستوي في ذلك المتجرّعون مرارة طعمها، وأيضاً المتلذذون بحلو مذاقها. لكنني سرعان ما أدركت أن المتحدث مصدوم حد الذعر بالفعل، وما هو مُبالغ. خلال الحديث، بدا واضحاً أنني لن أنجح في التخفيف من قلق مهاتفي، رغم الاتفاق على مبدأ أن ما كشفت عنه انتخابات مجلس العموم البريطاني، بدءاً بمفاجآت صناديق الاقتراع، وصولاً إلى ما اتضح من حجم أغلبية الأصوات غير المُتوقع، بدا بمثابة بلاغ أذهل الجميع. رغم ذلك كله، لم أستطع فهم لماذا يقلق كثيرون أكثر مما يجب، أو بقدر ينسجم مع منطق الأشياء، إزاء انتصار حزب «المحافظين» الكاسح، ولماذا تحديداً هناك شيء من الذعر بشأن بقاء بوريس جونسون حاكماً لبريطانيا مدة خمس سنوات.
نعم، التخوّف من ارتدادات ما بعد النتائج غير المتوقعة لأي انتخابات في بلدان عواصم القرار الدولي، كما لندن، أمر مفهوم. من الطبيعي أن تأثير منهج الحكم بأي من الدول الكبرى، يمتد خارج حدودها، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمواقف المُتخذة إزاء ما يشتعل في العالم من صراعات، وبالتالي السياسات التي تؤثر سلباً أو إيجاباً في مسار أي من الملفات الساخنة عالمياً. لكن الارتقاء بالتخوّف إلى درجة القلق المُفزع يبدو مبالغة غير مفهومة الأسباب. مثلاً، ذهب بعض الذين تطيّروا شراً مما يتوقعون بعد انتصار بوريس جونسون غير العادي، حد اعتبار أن موقف بريطانيا إزاء عدد من الملفات العربية سيكون نسخة طبق الأصل من مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأما من قضية فلسطين، خصوصاً، فسوف ينقلب الموقف البريطاني إلى أسوأ مما كان عليه قبل إنشاء إسرائيل. كَلا، الواقع أن كِلا التوقعين مجاف للمنطق.
صحيح أن الانسجام بين مواقف واشنطن وسياسات لندن فيما يخص الخلاف العربي مع الحكم الإيراني، سيظل في وضع أفضل مع ضمان استمرار «المحافظين» بقيادة بوريس جونسون في موقع القرار، لكن يصح هذا أيضاً حتى لو لم ينجح الرئيس ترمب في تجاوز محنة العزل من المنصب، أو في حال أنه فشل في الفوز بولاية رئاسية ثانية. يثير الاستغراب، أحياناً كثيرة، عجز نخب عربية عن التمييز بين الشخص والمؤسسات في الديمقراطيات الغربية. بالتأكيد، لشخصية رئيس الدولة، أو من يرأس الحكومة، أو حتى البرلمان، دورها المؤثر في الدول الغربية، لكن يعرف كل دارس مستوعب لأسس الحكم في تلك الدول، أن نفوذ المؤسسة هو الذي يسود في نهاية المطاف. ضمن هذا السياق، ليس ممكناً ضمان تطابق المواقف، أو السياسات، بين عواصم الدول الغربية إزاء أي من الملفات، لمجرد أن التوافق قائم بين شخص الرئيس وجوانب مما يطبع شخصيته على هذه الضفة من الأطلسي، وبين شخص نظيره وطبائع شخصيته، على الضفة المقابلة.
كذلك الأمر في شأن الموقف من قضية فلسطين. صعب تصوّر أن بوريس جونسون، السياسي المثقف، والدارس جيداً إقليم الشرق الأوسط تاريخياً، سوف يُقدم على أي إجراء يعرّض مصالح بريطانيا مع العالم العربي لاهتزاز فيما يحاول تعويض ما قد ينشأ عن تنفيذ «بريكست» من خسائر اقتصادية، فقط بغرض إرضاء إسرائيل، وبلا أي اعتبار للحقوق الفلسطينية، حتى لو أن موقفه الشخصي متعاطف مع مواقف تل أبيب لدرجة الانحياز، وهو أمر ليس ثابتاً على وجه التأكيد. الافتراض الجائز، منطقياً، هو أن يستفيد بوريس جونسون مما لحق بحزب «العمال» من الأذى بسبب رمي زعيمه جيرمي كوربن بتهمة «العداء للسامية»، فيُقدم على معالجة ما يواجهه حزب «المحافظين» من تُهم تفشي ظاهرة «الإسلاموفوبيا» في صفوف الحزب. استناداً لما سبق، يمكن القول إن الأقرب للتصوّر هو أن يوظف بوريس جونسون انتصار حزبه المتجاوز لكل التوقعات، والذي عُد بمثابة تفويض شخصي له، بغرض أن تلعب لندن دوراً أكثر إسهاماً في التوصل إلى حلول لأزمات المنطقة وفق أسس منطق العدل، فتقبل بها كل أطرافها، وبما يخدم صالح علاقات بريطانيا مع العالم العربي، وليس بما يضرّها. الوقت يمضي سريعاً هذه الأيام. لذا، غير بعيد عن يومنا هذا، الأرجح أن يتضح خلال عام أي الاحتمالين كان الأصح، التشاؤم القلِق أكثر مما يجب، أم الأمل بلا إغراق في التفاؤل.