سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

إنزال ماركس عن الرّف

إذا كنت من زوّار المكتبات الدائمين فلا بدّ أنك لاحظت تغيّراً أساسياً على رفوفها. لقد نقلوا كتاب «رأس المال» لكارل ماركس من جناح الآيديولوجيات إلى جناح الفلسفة. إلى جانب مؤلفين لا أعتقد أن الرجل يطيق جوارهم. لكنه حظه السيئ حياً وميتاً. أجل أيها الرفيق كارل، لا تفسير لكل ما حدث سوى سوء الطالع. لقد كرّست حياة طويلة في سبيل البحث عن حلّ لفقراء العالم. وها هم أول من تخلّى عنك وأغلقوا الأحزاب التي أقاموها ذات يوم باسمك. ولم يعد أحد منهم يذكر حتى عنوانك في لندن، حيث أمضيت الليالي الطوال والأيام القصار، تفكّر في الحلول، وتلغي من تلغي من الناس والأفكار والعادات، وأولادك بالكاد يحصلون على حساء سمين. وزوجتك تحاول إقناعهم بأن البرد والصقيع من فواكه الشتاء، كما كان يقول الراحل العزيز رشيد كرامي، وهو يحاول إقناع ضيوفه بأن التدفّؤ حول منقل الجمر ليس سببه الحرص الشديد على المال، وإنما التمتّع برائحة الخشب.
هل تذكر أيها الرفيق يوم هرب جميع جيرانك في حي «سوهو» خوفاً من وباء الكوليرا الذي ضرب المكان ولم يكن في إمكانك أنت وعائلتك الانتقال إلى أي مكان آخر. وبعدها بعام، جاءت الشرطة وصادرت المفروشات القليلة في منزلك، في شارع «دين ستريت»، وأنك اضطررت إلى بيع أحذية أبنائك ومعطفك الوحيد؟ هل تذكر يوم أبلغ أحد جيرانك الشرطة أن المزهرية الزجاجية في منزلك مسروقة لأنه لا يمكن أن تكون لكم، في حين أنها الشيء الوحيد الذي ورثته زوجتك عن أمها. يومها كتبت إلى راعيك وصديقك وشريكك في الفكر فريديريك انجلز تقول: «الآن عرفت للمرة الأولى معنى سوء الطالع».
عذراً منك، لكنك لم تعرف شيئاً. سوف تدرك حجم سوء الطالع عندما تدخل الآن أي مكتبة في أي مدينة من العالم وتجد أنه لم يعد لك مكان لائق حتى على تلك الرفوف التي شغلتها لعقود طويلة. لقد حرّضت العالم بعضه على بعض، وقسمته إلى جزأين ونزلت المظاهرات إلى شوارع المدن تهتف باسمك وترفع أقوالك وشعاراتك في كثير من الصخب والأمل بأنك قلبت الرأسمالية في وجه الرأسماليين. وإلى الأبد. هنا، في «دين ستريت»، جاء مفوّض الشرطة ليضع تقريراً العام 1853 عن حالة ماركس وعائلته. فماذا كتب: «كل شيء مكسّر وممزّق، تعلوه طبقة كثيفة من الغبار، كل شيء. الكتب والمخطوطات والصحف وألعاب الأطفال وأدوات الخياطة التي تستخدمها الزوجة. فناجين مكسّرة حوافها وملاعق قذرة وسكاكين وشوَك ومصابيح وبعض الغلايين الهولندية المصنوعة من الطين، ورماد التنباك، كل ذلك على مدخل غرفة ماركس المليئة بضباب الدخان. والبحث عن مقعد هنا عملية خطرة. فإلى جانبك كرسي من ثلاثة أرجل فقط، أما الكرسي الآخر، الكامل الأرجل، فإن الأطفال يلعبون عليه».
هل كان ذلك أكثر قساوة أيها الرفيق من أن ينقلك موظّفو المكتبات إلى رفّ الفلسفة حيث لا يتوقف إلا الراسخون في الشك.