في وقت مضى، نالت رئيسة الوزراء تيريزا ماي شعبية كبيرة. ربما يصعب تذكر هذا الأمر اليوم في وقت تستعد للتنحي تماماً عن منصبها في غضون أسبوعين ـ ومع هذا، تبقى تلك الحقيقة. قبل ثلاث سنوات فقط من إجبار حزبها لها على التنحي، كانت تجري الإشادة بماي من جانب سياسيين ومواطنين، باعتبارها الخيار الأكثر حكمة لقيادة رحلة انفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي.
بعد ذلك، جاءت حقيقة «بريكست» والأزمة التي عجزت ماي عن تسويتها. والمؤكد أن التاريخ سيحكم عليها على أساس هذا الإخفاق، الذي تسبب في تأجيج حالة الانقسام على الصعيد الوطني وخلق فجوة في قلب المشهد السياسي البريطاني. ومع هذا، يبقى من غير المنصف تقييم إرث ماي دون الفصل بين الأمور التي كان بإمكانها التحكم فيها عن تلك التي ظلت خارج حدود قدراتها.
الملاحظ أن ماي تسللت بهدوء إلى منصب رئيس الوزراء، فعندما استقال رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون بعد صدمة استفتاء «بريكست» عام 2016، بدا شبه مؤكد أن بوريس جونسون صاحب الشخصية الكاريزمية سيخلفه. إلا أن جونسون انسحب بعد خيانة مايكل غوف له، والذي اتهمه بالافتقار إلى شخصية مميزة. اليوم، يعتبر وزير الخارجية السابق المرشح الأول لخلافة ماي.
في ذلك الوقت، لم تكن ماي خياراً واضحاً، لكنها سرعان ما اكتسبت شعبية كبيرة خلال الشهور التي أعقبت الاستفتاء. في أغسطس (آب) 2016، أبدى 48 في المائة من جميع الناخبين رضاهم عن ماي، بينما بلغت نسبة غير الراضين عنها 36 في المائة، حسبما كشفت استطلاعات الرأي. في يوليو (تموز) من العام ذاته، أجاب 52 في المائة ممن سئلوا حول ما إذا كانت ماي ستكون الخيار الأمثل لمنصب رئيس الوزراء، بالإيجاب، بينما وقع اختيار 18 في المائة فقط على زعيم حزب العمال، جيرمي كوربين.
ولم يكن الناس يبحثون عن الكاريزمية في شخصية القائد، بقدر ما كانوا يبحثون عن شخص صاحب تفكير حكيم وقدرة على توحيد الصفوف. بالنسبة لماي، فقد أظهرت السمات المميزة للموظف العام الصالح والقائد المثابر. مثلاً، أثناء عملها وزيرة للداخلية، منصب غالباً ما يكون بمثابة مقبرة للطموحات السياسية، بنت ماي لنفسها سمعة تقوم على إتقان التعامل مع التفاصيل، ونجحت في التشبث بالمنصب. وعندما أشار إليها المشرع كينيث كلارك من حزب المحافظين، أمام كاميرا عن طريق الخطأ بأنها «امرأة صعبة المراس»، رأت الغالبية أن هذا الوصف ينطوي على إشادة، بغض النظر عما كانت مقصودة.
بعد الاستفتاء، تحدثت ماي إلى البلاد بأسرها، لكن بشكل خاص أولئك الذين لحق بهم الضرر الأكبر من جراء سنوات التقشف والعولمة، وتفاقمت الفجوة بين مهاراتهم ومتطلبات بيئة العمل الحديثة.
والتساؤل هنا: ما الذي حدث لكل هذه البدايات الواعدة؟
من بين الأشياء التي حدثت انتخابات 2017. كانت ماي تأمل في استغلال شعبيتها في تحقيق فوز كاسح لحزب المحافظين يعزز موقفها من «بريكست» في الداخل وفي بروكسل. وتعرض وزراء الحكومة للتهميش مع تركيز الحملة الانتخابية على القائد «القوي محقق الاستقرار» أكثر عن تركيزها على حزب المحافظين. إلا أن الحملات الانتخابية تتطلب درجة من القدرة على إظهار التعاطف مع الجماهير، الأمر الذي افتقدته ماي. كما أن المظهر المتخشب لماي زاد الوضع سوءًا.
بإيجاز، أدارت ماي الحملة الانتخابية على نحو مروع وخسر المحافظون الأغلبية البرلمانية. وتعين عليها بعد ذلك اتخاذ القرار المشؤوم بالدخول في اتفاق ثقة ودعم مع الحزب الديمقراطي الوحدوي الذي أصبح لاحقاً أعضاؤه البرلمانيون الـ10 المنتمون لآيرلندا الشمالية يملكون بأيديهم مصير خطة الحكومة لتنفيذ «بريكست». ومع هذا، فإن اثنين من العوامل المحورية التي خلقت المشكلات التي عصفت بماي لا علاقة لها بالنكسة الانتخابية: الانقسام الذي أحدثه التصويت حول «بريكست» ذاته، وقيادتها وأسلوبها المعيب في التواصل.
ومع أن الكثيرين يركزن جل اهتمامهم على العنصر الثاني وحقيقة افتقار ماي إلى الكاريزما، لكن الحقيقة أن مزيج العنصرين كان قاتلاً. بالتأكيد تتسم ماي بمظهر متخشب خال من الكاريزما، لكنها ليست أول زعيم لحزب المحافظين يعاني هذا العيب، فقد كان إدوارد هيث الذي تولى منصب رئيس الوزراء أوائل سبعينات القرن الماضي مفتقراً إلى جاذبية الشخصية، لدرجة كانت تدفع الصحافيين للتطلع نحو ساعاتهم عندما كان يوجه حديثه إليهم. كما اشتهر جون ميجور، الذي تولى رئاسة الوزراء على امتداد الجزء الأكبر من التسعينات، بوصف «رجل رتيب يرتدي سترة رمادية».
وقد احتفظ الرأي العام ببعض من إعجابه تجاه ماي بينما كانت تقاتل لتمرير اتفاقها للانفصال عن الاتحاد الأوروبي عبر البرلمان، لكن بمرور الوقت تلاشى هذا الإعجاب. بحلول أواخر مارس (آذار)، كان لدى 65 في المائة من المواطنين وجهة نظر سلبية تجاه ماي. وبدا أن مسار ماي قد انحرف، ولم يكن في إمكانها فعل شيء سوى المضي في دفع ذات الخطة المرفوضة. ومن بين أسوأ اللحظات في مسيرة سقوطها عندما وجهت خطاباً إلى الأمة مساء أحد الأيام انتقدت خلاله أعضاء البرلمان لعدم اتخاذهم قراراً.
ولم تقتصر مشاعر الإحباط على البريطانيين، وإنما كانت واضحة على قيادات الاتحاد الأوروبي كذلك. وعبر القمم المتعاقبة للاتحاد الأوروبي، تبدل المزاج العام من الشفقة إلى التعاطف إلى اليأس إزاء أسلوب قيادة ماي. وفي حديث له أمام صحافيين، اشتكى عضو بالبرلمان الأوروبي، البلجيكي بلجيان فيليب لامبرتس، من أن ماي «تفتقر إلى المهارات البشرية الأساسية اللازمة في القائد».
في الواقع، لقد سقطت ماي لأن نقاط قوتها ـ العزيمة والولاء لحزبها والقدرة على مقاومة الضغوط ـ كانت في حقيقتها أيضاً نقاط ضعفها. تمثل الجانب السلبي لعزيمتها الصلبة في العناد، بينما كان الجانب السلبي لولائها لحزبها عجزها عن اتخاذ قرارات لا تحظى بالشعبية في وسط دائرة صغيرة لكن قوية من الحزب. أما الجانب السلبي لشعورها بالواجب فكان معاناتها من حساسية بالغة تجاه أي تسويات أو حلول وسطى.
ومن الأمور التي أضرت بماي أنه لم يكن لديها سوى القليل من الأصدقاء، فهي شخصية متحفظة وتعتمد على مجموعة صغيرة من المستشارين. وبدا أنها بعيدة تماماً عن المزاج العام داخل حزبها. وكان الوزراء في حكومتها على درجة كبيرة من عدم الولاء والشك تجاهها، لدرجة أن تفاصيل المناقشات الوزارية كان يجري تسريبها بتفاصيل مروعة. حتى اجتماعات مجلس الأمن الوطني لم تكن بمأمن من ذلك، واضطرت ماي إلى طرد وزير الدفاع عندما تسربت معلومة عن أمر يتعلق بدور شركة الاتصالات الصينية العملاقة «هواوي» في بناء شبكات الجيل الخامس.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
7:44 دقيقه
TT
كيف التهم «بريكست» رئيسة الوزراء؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة