د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

استقالة جيمس ماتيس

لم تكن استقالة جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي، من منصبه المهم مفاجأة كبيرة، بل إنها كانت متوقعة إلى حد كبير بعد قرار الرئيس دونالد ترمب سحب القوات الأميركية من سوريا، بعد فترة طويلة أكدت فيها السلطات الأميركية المختلفة أن هذه القوات باقية على الأقل كما جاء على لسان جون بولتون مستشار الأمن القومي طالما كانت إيران باقية في سوريا. لم يكن هناك ما يشير إلى تغيرات في الوجود الإيراني، بل بدا أن موقع إيران، بالتعاون مع تركيا وروسيا، يتعزز إلى حد كبير. صدر قرار الرئيس على أي حال، كما صدر بعده قرار وزير الدفاع بالاستقالة، وربما كان الأهم من خروج آخر العقلاء والراشدين كما يطلق عليهم من إدارة ترمب، ما جاء في خطاب الاستقالة ذاته، الذي احتوى على ثلاث نقاط أساسية؛ أولاها أن ماتيس أكد على أنه آن الأوان أن يكون لدى الولايات المتحدة وزير للدفاع تتوافق آراؤه مع آراء الرئيس؛ والثانية ضرورة أن يكون تعامل الولايات المتحدة مع حلفائها باحترام؛ والثالثة أن السياسة الأميركية لا بد أن تكون «حازمة» وغير متناقضة في مواجهة الصين وروسيا. الاستقالة هكذا «مسببة» تعرض لانقسامات أساسية وخلافات متعلقة بالسياسة الخارجية الأميركية، وربما ما هو أعمق من ذلك وممتد للسياسة الداخلية أيضاً، والآيديولوجيا الحاكمة في الولايات المتحدة.
استقالة ماتيس ليست الأولى، وليست الأخيرة لوزير الدفاع الأميركي، بل إنه كثيراً ما حدث أن جرت تغييرات قيادية في أعقاب نهاية فترة رئاسية، أو التجديد النصفي للكونغرس، لكن الأمر هنا مختلف تماماً؛ لأن الرئيس دونالد ترمب ليس مثل كل الرؤساء الأميركيين. هو حالة جديدة على النظام السياسي الأميركي، ربما كان فيها بعض من سياسات العزلة التي كانت في أعقاب حرب الاستقلال أو بعد الحرب العالمية الأولى عندما عزفت أميركا عن دخول عصبة الأمم وانكمشت على ذاتها محاطة بمحيط في شرقها وآخر في غربها، لكن الجديد في الأمر أن العالم يعيش الآن في القرن الواحد والعشرين، وبعد قيام نظام دولي قادته أميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع وجود التحدي السوفياتي خلال الحرب الباردة، أو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراد أميركا بقيادة العالم. وربما كان الأكثر أهمية أن الجديد جاء من الداخل، وحينما يطرح وزير الدفاع في خطاب استقالته أن الرئيس يحتاج إلى وزير يتوافق معه، فإن معنى ذلك أن الفجوة ما بين الرئيس والوزير، والأرجح المؤسسة الدفاعية أيضاً، باتت مستحيلة العبور. المسألة هنا ليست نوعاً من التوافق الشخصي من عدمه، وإنما هي خلافات جوهرية ربما بدت من مواقف رئيس الدولة الذي أعلن في أكثر من مناسبة أنه يعرف أكثر من الجنرالات، وفي واحد من تصريحاته قال في سابقة لم تحدث من قبل لرئيس أميركي إن الولايات المتحدة لم تكسب حرباً منذ الحرب العالمية الثانية. وفي أكثر من مناسبة، فإن انتقاداته تعدت وزارة الدفاع إلى كامل المؤسسات الأمنية الأميركية، وبخاصة وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي وقف أمام تقديراتها فيما يخص الاتهامات الموجهة لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث انتصر لموقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المنكر لهذا التدخل على حساب تقديرات الوكالة المؤكدة له.
استقالة ماتيس هي خروج لمدرسة كاملة كانت مقتنعة أن الرئيس الأميركي أياً من كان لا يستطيع الخروج على السياسات الكبرى الأميركية، وأنه من الممكن ترشيده إذا ما عرف أسرار الحكم والعالم والمسؤوليات الكبرى الواقعة على كتفه. الرؤساء يجيئون ويذهبون، لكن الولايات المتحدة باقية بمصالحها الاستراتيجية الكونية، التي بذلت جهوداً مضنية من أجل خلق الوسائل لتدعيمها، ومن أهمها إنشاء حلف الأطلسي، ومعاهدة الدفاع المشترك بين واشنطن وطوكيو، والتحالف المخابراتي الخاص بين الدول الأنغلوساكسونية الذي يضم الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، ودعم الاتحاد الأوروبي واعتباره جناحاً آخر للتحالف الغربي. كل هذه المؤسسات كانت نتيجة جهود جبارة بذلتها المؤسسات الأميركية لكي تقوّض الاتحاد السوفياتي والآيديولوجيا الشيوعية، وقيام مؤسسات عالمية مثل منظمة التجارة العالمية تعبر عن العولمة وتفاعلاتها الفكرية الليبرالية والتكنولوجية التي تربط الكرة الأرضية بعضها بعضاً، وتنظم عمليات الخروج من الأرض إلى الفضاء. كل ذلك لم يكن مصدر ارتياح للرئيس الأميركي، بل أكثر من ذلك فإن مواقفه كثيراً ما عبّرت عن «عدم الاحترام» لحلفاء الولايات المتحدة، وحلف الأطلسي، والاتحاد الأوروبي.
الرئيس ترمب جاء من مدرسة أخرى، لا ترى العالم وحدة واحدة، أو ينبغي أن يكون هكذا وحدة واحدة تتعامل مع التجارة بقدر ما تتعامل مع الاحتباس الحراري. العالم هنا مكون من وحدات قومية لكل منها مصالحها وقدراتها، ومن بينها فإن الولايات المتحدة لا يهمها كثيراً مصالح العالم بقدر ما يهمها مصالحها الخاصة، ومصالح مواطنيها، وبخاصة البيض منهم الذين غبنوا نتيجة زحف «الملونين» من أجناس مختلفة على الدولة الأميركية. هنا، فإن منهج ترمب يتعامل مع العالم كوحدات منفصلة، كل واحدة منها لها علاقات ثنائية مع الولايات المتحدة، التنظيمات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية و«نافتا» في السابق لا تعني الكثير إذا كانت تعني نقل المصانع من الولايات المتحدة إلى المكسيك، وأن تحصل الصين على فائض مزمن في الميزان التجاري بينها وبين الولايات المتحدة. وعندما ذكر ماتيس في خطاب استقالته ضرورة أن تكون الولايات المتحدة حازمة وغير متناقضة فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا والصين، كان ذلك باعتبار الدولتين ليستا فقط منافستين للولايات المتحدة، وإنما باعتبارهما من القوى «المراجعة» للنظام الدولي كله الذي تقوده الولايات المتحدة. ترمب هنا لا يعرف الموضوع بهذه الطريقة، فهو من ناحية لا يريد قيادة مكلفة للولايات المتحدة للنظام الدولي، وبخاصة لو كانت القيادة تكلفها عسكرياً حروباً مؤلمة كما جرى في كوريا وفيتنام وأفغانستان والعراق ومؤخراً في سوريا. ومن ناحية أخرى، أنه في العلاقات الثنائية بين الدول «القومية» فإن المصالح تتناقض أحياناً، وتتواءم أحياناً أخرى؛ وربما تفرق التجارة بين الصين والولايات المتحدة؛ لأن الأولى صممت دائماً أن تحصل على المزايا التي تحصل عليها الدول النامية، بينما الحقيقة أنها باتت قوة تجارية عظمى. لكن العلاقات الصينية الأميركية من الممكن أن تتوافق فيما يتعلق بنزع السلاح النووي عن كوريا حتى ولو كان التوافق غائباً فيما يخص بحر الصين الجنوبي. وتقوم المعادلة نفسها في العلاقات الروسية - الأميركية التي قد تتوافق في الحرب على «داعش» والحرب على الإرهاب عامة، لكنها لا تتوافق فيما يتعلق بأوكرانيا.
المسألة هنا أن استقالة ماتيس كاشفة؛ فقد جاءت بعد استقالات لكيلي رئيس موظفي البيت الأبيض، وتيليرسون وزير الخارجية، وماكماستر مستشار الأمن القومي، أي أن هجرة كاملة جرت لجماعة العاقلين الراشدين كما يسميهم الإعلام الأميركي؛ لكنهم في الحقيقة يمثلون مدرسة بكاملها في السياسة الخارجية الأميركية، والآن بات الرئيس الأميركي حراً تماماً لكي يقدم سياسته نقية وصافية.