أعلم أن تناول موضوع، يمثل جزءا من حياة المواطن العربي ومشاعره منذ أكثر من 65 عاما، أمر شائك وصعب، ولكن مهمة الكاتب هي محاولة تناول القضايا – من وجهة نظره الشخصية – بعيدا ما أمكن عن العواطف، وأن يطرح ما يراه وسيلة أنجع لتفادي المصير الأسوأ، فإن أصاب فقد نال أجرين وإن أخطأ فله حتما أجر، وفي الحالين هو اجتهاد لا يفرضه ولا يحدد به سياسات أحد وليس ملزما لغيره، وهو في أحسن الأحوال سباحة ضد التيار تعرض الكاتب إلى كل مفردات القاموس العربي من التخوين وصولا إلى استباحة الدم.
منذ أكثر من شهر لم تتوقف آلة الدمار والتقتيل الإسرائيلية عن ضرب كل موقع داخل غزة، زعمت وجود صواريخ أو مقاتلين فيه، ولكن النتيجة لم تكن سوى قتل أطفال رضع وشيوخ ونساء ومدنيين وتدمير منشآت تعود ملكية أغلبها لمواطنين مقهورين أصلا منذ الإعلان الشهير عن «تحرير غزة»، والذي بشر مطلقوه بتحويلها إلى فردوس فلسطيني وصرخوا بالشعارات المستهلكة وانشغلوا بحجاب المرأة قبل توفير لقمة العيش وإغلاق المقاهي قبل حماية الحريات وصيانتها.
أدرك أن شعارات «لا صوت يعلو على صوت المعركة» و«يا قدس قادمون»، ما زالت تدغدغ الكثيرين ممن يقدمون العاطفة على العقل، ويفضلون الغيبيات على المرئيات، ويرفضون التعامل مع الواقع، ويهربون إلى أوهام غرستها سياسات من قفزوا إلى السلطة بغتة، وتشبثوا بها، وصار انتزاعها منهم لا يمر إلا عبر سيل من الدماء.
قبل أيام كنت في حديث مع عدد من الأصدقاء حول هول المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، وما يتعرضون له من آلة الموت الإسرائيلية، وقلت إن تشبث حماس بوهم القدرة على المقارعة والمقاومة هو انتحار مدمر وسريع ودعوة مفتوحة للمزيد من الدماء والدمار، وليس من العار أن تعلن رغبتها في حماية مواطنيها والاكتفاء بمن ذهب منهم ضحية غرور القوة والصلف الإسرائيليين، وأن تعي أنهم ينتهزون الفرصة مهما تضاءلت، وغير مهددة لاستمرار احتلالهم، ومن غير الحكمة تصور أن استمرار البشاعات التي يرتكبونها ستحشد رأيا عاما ضاغطا ضدها، ولا يجوز تصور أن مظاهرات، مهما بلغ حجمها وضجيجها، قادرة على إسكات أصوات المدافع وأزيز الطائرات، وأعجب كيف أن قادة حماس ما زالوا يتمسكون ببلاغتهم في نشر أخبار النصر، ونحن نشاهد حساب الأشلاء والدمار!
عندما ألقت الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، كان بإمكان الإمبراطور الاستمرار في الحرب وتعريض بلاده للمزيد من الدمار والقتل، ولكنه فضل التنازل عن كرامته الإمبراطورية وأعلن استسلامها، وكثيرون يتذكرون المشهد المهين الذي تعرض له عند توقيع الاتفاقية، ومنذ ذلك الحين ركز اليابانيون على البناء الداخلي بعيدا عن الشعارات الجوفاء وصارت بلادهم مركز إشعاع علمي وثقافي وصناعي وإنساني.. صحيح أن غزة تتعرض لحصار ظالم وقسوة عدو محتل لا يرغب في منح الفلسطينيين فرصة لبناء مستقبل آمن، ولكن حركة حماس لم تحاول حجب أي فرصة يتحينها العدو.
في الحرب العالمية الثانية قامت الحكومة الفرنسية بتسليم العاصمة للقوات الغازية دون قتال، لأنهم كانوا يدركون أن المقاومة لا تتحقق بالعناد أمام قوة عاتية، ولكن بحشد المواطنين في معركة شعارها الحياة لا الموت، والحفاظ على ما هو قائم لا تدميره، وبذل الجهد لتقوية المجتمع وتكاتفه لا بث الفرقة داخله والشتات، ويكفي أن نتذكر كم أنهكت المفاوضات الرئيس محمود عباس بسبب تعنت حماس ومنظمة التحرير، وعدم رغبتهما في التنازل عن الحكم، وتجاهلا مصلحة الفلسطينيين وقضيتهم، ولنتذكر الوقت الذي استنزفاه في سعيهما لتثبيت قياداتهما في الحكم، وظللنا نسمع الحديث المكرر عن الوحدة الفلسطينية، ولكن كل ذلك سقط فوق طاولة تقسيم الحقائب الوزارية، ولم يكن هم الفلسطينيين وتعبهم والآمهم كافيا ليتجاوز الفريقان جشع حكم ضعفا أمامه.
لست هنا في معرض تحميل طرف دون آخر مسؤولية ما يحدث، ولكن منطق الأشياء كان يستوجب أن تتحلى حماس بالحكمة، وأن تعمل بقول الله «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»، وأن تتذكر حكمة القبائل العربية «لا تقاتل حيث تقتل»، وأن تثبت أنها قادرة على تحمل تبعات استيلائها على قطاع غزة وعجزها عن حمايته، وتقديم الخدمات الأساسية التي يحتاجها من وقع تحت قبضته وانقطعت بهم السبل فلم يجدوا مكانا آخر يلجأون إليه مع أطفالهم وشيوخهم، وعلى حماس أن تتحلى بشجاعة إعلان فشلها في تحقيق شيء من الخطاب الذي قدمته لأهلنا في غزة وحين جاءت الساعة لم تستطع الوفاء به، ثم تركتهم في العراء يبحثون عن جدار يستندون إليه أو سقف يحميهم من حمم النار الإسرائيلية التي لا تميز بين مدني أو عسكري.
إن توجيه اللوم والانتقاد لتخاذل دول عربية بعينها عن نصرة أهل غزة، خصوصا، يستوجب أن يستمع قادة حماس لنصائح قادة هذه العواصم، وأن يتقبلوها منهم وأن يسمحوا لهم بمساعدتهم، ولعل في رفض الجهد المصري مثالا على إصرار حماس على الزعم بقدرتها على فرض شروطها، وإن تسبب ذلك بالمزيد من الضحايا والدمار، وكان حوار السيد خالد مشعل قبل أيام على قناة الـ«بي بي سي» مثالا صارخا لابتعادهم عن الواقع، واستمرار بيع الأوهام بالقدرة على الانتصار الذي فقد معاييره وقيمته، وصار مجرد توقف آلة التدمير عملا يتفاخر به البعض حتى وإن كانت قد أكلت الأخضر واليابس، كما أن الحديث عن أن الفلسطينيين لم يعد عندهم ما يفقدونه، هو دعوة انتحار جماعي استثنى القادة أنفسهم منها مواصلين خطابهم المكرر.
لقد ربط السيد مشعل قبول حماس وقف إطلاق النار بشرط ليس أساسيا الآن - في نظري - قبل وقف القتل الجماعي للفلسطينيين، وقال إن حماس لن توافق إلا إذا تم رفع الحصار كاملا وفتح كل المعابر.. هذان الشرطان يمكن للجهة القادرة على تنفيذهما قبولهما أو رفضهما، ولكن ليس لحماس الحق في جعلهما أهم من وقف فوري لإطلاق النار، كما أنه كان يتحدث بثقة تدل أنه بعيد عما يجري على الأرض في غزة.
إن مشاهد القتل والتدمير واستباحة الممتلكات الخاصة والعامة في غزة، لم تعد تثير الغضب والرغبة في الانتقام لدى المواطن العربي المشغول بقضاياه، فمن يعيشون تحت رحمة المالكي و«داعش» وحمم الموت في سوريا صارت صور جرائم إسرائيل تمر أمام أعينهم فلا تحدث أكثر من لحظة حزن عابرة، وأضحوا يتعايشون معها كنتاج لواقع تبعثرت فيه الآمال والأحلام، وانحصرت همومهم في الحصول على أقل القليل من الأمن ومقومات الحياة الأساسية.
7:52 دقيقه
TT
إسرائيل لن توقف عدوانها!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة