داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

التضليل الإعلامي الإيراني سهام طائشة

لتبسيط الأمر، فإن الفساد الإعلامي أو التضليل الإعلامي هو «إقناع الناس بأن رجلاً أخرس قال لرجل أطرش إن رجلاً أعمى شاهد رجلاً مشلولاً يلحق برجل أعرج ليمنعه من شدّ شعر رجل أصلع»!
ليس كل الناس يملكون من المعرفة والوعي والمتابعة ما يُمَكّنهم من التمييز بين سيلٍ من الأخبار والشائعات الملفقة والمزورة على مواقع التواصل الاجتماعي الفردية والحكومية على حد سواء. وبعض هذه المواقع يزورها بانتظام مئات الألوف ممن يسهل خداعهم وتضليلهم وتوجيههم، بل وغسل أدمغتهم بأمواج من الأكاذيب والمزاعم المسندة إلى عناوين شخصية أو رسمية أو منظمات إنسانية أو جمعيات خيرية أو أحزاب دينية أو حتى صحف شهيرة. ولا يمرّ أسبوع واحد من دون أن أتلقى على بريدي الإلكتروني أو مواقع التواصل الأخرى أخباراً منسوبة إلى «واشنطن بوست» أو «نيويورك تايمز» أو «دير شبيغل» أو «الإيكونوميست» أو الإذاعة البريطانية أو «راديو باريس» أو حتى «تلفزيون سنغافورة» إمعاناً في التضليل والتمويه بحيث لا تستطيع أن تصل إلى أي نتيجة إذا ما حاولتَ أن تتحقق من هذه المزاعم أو الأرقام أو الصور المفبركة.
الساحة المثالية لهذه «اللعبة» الساذجة هي الدول التي تمرّ بأزمات داخلية أو توترات خارجية يمكن أن تغطي على الحقيقة باستنساخ مقاربات غير حقيقية لتحقيق أهداف تشويهية مُربكة.
المثال الدولي الأقرب والأوضح إلى جميع القراء في هذا الشأن هو الكم الهائل من الرسائل الإلكترونية التي ملأت فضاء التواصل الاجتماعي في المحيط العربي الإقليمي وخارجه عن قضية الصحافي السعودي الراحل جمال خاشقجي.
لم تكن هذه الوسائل عملاً فردياً يمكن التغافل عنه أو تجاهله، فقد كانت دول ومنظمات تقف وراءها لتصفية حسابات أو افتعال سيناريوهات على الرغم من أن المملكة العربية السعودية نددت بما حدث وشَرَعَت في اتخاذ خطوات تنفيذية وجنائية وقضائية لكشف الحقيقة.
منذ سنوات انتبه النظام الإيراني إلى سلاح التضليل الإعلامي، فوجده ساحة مفتوحة أمامه يفعل فيها ما يشاء. وقد كشفت وكالة «رويترز» في تقرير مطول نشرته «الشرق الأوسط» قبل أيام أن مواقع التضليل الإيرانية يزيد عددها على 70 موقعاً على الإنترنت في 15 دولة، وهي تتخذ مقرات وهمية لها وعناوين ملفقة وهواتف غير موجودة.
ولا يخلو الأمر من نكتة حين أظهرت خريطة على «فيسبوك» أن موقع «نايل نت أون لاين» في منتصف شارع في ميدان التحرير وليس في داخل أي مبنى! وهذا الموقع يهدف إلى «التأثير في الرأي العام المصري» من خلال حملة تُدار من المقر الحقيقي في طهران. وخطورة مثل هذه المواقع أنها تستهدف فئات عمرية غير محصنة تحت شعارات دينية غير مباشرة تمهّد الطريق لاحتواء ملايين المتابعين عبر النت، خصوصاً في الدول الأقل اهتماماً بالآثار السلبية لهذا النوع من التغلغل في المجتمعات والتسلل إلى الرأي العام وصنّاع القرارات. لكنّ هذا لا يمنع من أن هناك أكثر من مليون متابع في الولايات المتحدة وبريطانيا، وكتلاً بشرية غير محدودة في دول أخرى تتم مخاطبتها بـ16 لغة محلية مختلفة. وقامت شركة الأمن الإلكتروني «فاير آي» وشركة «كلير سكاي» بمراجعة ما توصلت إليه «رويترز»، وقالتا إن مؤشرات فنية تؤكد أن شبكة المواقع وحسابات التواصل الاجتماعي الجديدة التي يطلق عليها اسم «الاتحاد العالمي لوسائل الإعلام الإلكترونية» جزء من نفس الحملة التي حذفت «فيسبوك» و«تويتر» و«غوغل» أجزاء منها في الأشهر القليلة الماضية.
ويبث الاتحاد المذكور محتوى من وسائل إعلام إيرانية رسمية ومنابر أخرى متحالفة مع حكومة طهران عبر الإنترنت مع إخفاء المصادر الرئيسية للمعلومات مثل قناة «برس» التلفزيونية الإيرانية، ووكالة «فارس» للأنباء، وقناة «المنار» التلفزيونية التابعة لميليشيات «حزب الله» في لبنان.
ونقل لي إعلاميٌّ عراقيٌّ من بغداد أن المتخصصين اكتشفوا أن أكثرية العراقيين تعزف عن التواصل مع المواقع الإيرانية بعد افتضاح الرداء الطائفي. وهو أمر قد يفاجئ مَن ظن كل الظن أن العراق صار فعلاً حديقة خلفية لإيران كما يروّج قاسم سليماني وروحاني وملالي الحسينيات. صحيح أن لطهران اليد الطولى في المنطقة الخضراء الحاكمة، لكن هذا شيء والعراق بجميع محافظاته شيء آخر عَبّرَ عن نفسه في المظاهرات والاحتجاجات ومقاطعة الانتخابات المزورة والحملات «السيبرانية» المضادة للخطاب الفارسي.
إيران تركز في حملتها الإعلامية التضليلية على دول لطهران موضعُ قدمٍ فيها مثل العراق وسوريا واليمن ولبنان وأفغانستان وباكستان وتركيا ودول أفريقية تقطنها غالبية أو أقلية إسلامية في إطار هدفها غير المعلن لنشر «التشيع» في العالم الإسلامي والحلقات الضعيفة في دول أخرى في أميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا.
ولفتت «رويترز» إلى أن الأخبار التي تبثها هذه المواقع ليست كلها مزيفة أو «مزوّقة»، فمنها أخبار حقيقية تتسلل إلى المتابعين عبر حوارات في رسوم كارتونية أو خطب خامنئي أو مقالات الصحف الإيرانية الحكومية. ولا تكتفي طهران بذلك، فهي تمارس، كما قرأتُ في أكثر من موقع، اختراقات إلكترونية لمؤسسات الدول غير المحصّنة، خصوصاً القوات المسلحة والبنوك والمؤسسات الاقتصادية والسفارات ومراكز المعلومات.
نحن نعرف أن النظام الحاكم في طهران نظام مارق وشرير لكنّ هناك دولاً «على باب الله»، أي على نياتها الحسنة... والطريق إلى الجحيم مفروش بالنيات الحسنة. لذلك لا بد من تكرار مطالبتي لجامعة الدول العربية بالدعوة إلى اجتماع على مستوى رفيع لدراسة مخاطر العصر السيبراني قبل أن يستفحل الأمر... ولات ساعة مندم.