محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

زرنخة الحياة

بعد ظهر الأول من ديسمبر (كانون الأول) 2010، عقدت وكالة «ناسا» مؤتمراً صحافياً للإعلان عن اكتشاف شكل من أشكال الحياة قائم على عنصر الزرنيخ! بينما المعروف والمستقر علمياً هو أن جميع أشكال الحياة من الميكروبات والنمل والفراشات والعصافير حتى النمور والأفيال والحيتان مروراً بالإنسان، قائمة كلها على ستة عناصر أساسية هي: الكربون والهيدروجين والنيتروجين والأكسجين والفسفور والكبريت، فمن أين جاء الزرنيخ؟
«من بحيرة مونو بكاليفورنيا»، كان ذلك رد «ناسا» على التساؤل، فقد حصد علماؤها عينات كثيرة من بكتيريا تعيش في هذه البحيرة المالحة والمحتوية مياهها على نسبة زائدة من الزرنيخ، وزعموا أنهم اكتشفوا بدراستهم لها حلول الزرنيخ محل الفسفور في الحمض النووي لهذه البكتيريا. وفيما شكك بعض العلماء في هذا الاكتشاف، تلقفته وسائل الإعلام والجمهور العام بالانبهار، فقد رأوا فيه معقولية مصدرها أن وجود نوع من الكائنات الدقيقة يعيش في بحيرة هذا شأنها، طبيعي أن يكون متناغماً مع الزرنيخ، ويزدهر به.
ريد فيلد عالم بيولوجيا الميكروبات الكندي الذي كان من بين أوائل المنتقدين لدراسة «ناسا»، غرد حينها بحِدَّة «لا أعرف ما إذا كان هؤلاء المؤلفون مجرد علماء سيئين أم أنهم يدفعون (ناسا) بشكل لا لبس فيه إلى الاعتقاد بأن هناك حياة في الفضاء الخارجي»، وقد أشعلت تغريدته غضباً عارماً عليه، فيما ظلت أصوات المعارضين لهذا الاكتشاف خافتة، تطمسها ضجة إعلامية عارمة وشاملة، حتى أن المكالمات المنبهرة تدفقت على «ناسا» بوفرة، وكان أشهرها من البيت الأبيض ومن الكونغرس، مما أجج التكهنات بأن ذلك الاكتشاف يزيد من احتمالات العثور على أشكال «مختلفة» من الحياة خارج كوكب الأرض. ولكن...
في يوليو (تموز) 2012 صدرت مجلة «ساينس» العلمية الأميركية الشهيرة والموثوقة، وبها تفنيد للتقرير الأصلي لـ«ناسا»، حيث ظهرت أبحاث جديدة تؤكد أن البكتيريا التي درسها الفريق البحثي الممول من «ناسا»، لم يحل فيها الزرنيخ محل الفسفور لا في حمضها النووي ولا في أغشيتها. وكان القائمون على بحث «ناسا» قد امتدحوا عملهم باستنتاج أن وجود حياة في هذا الوسط غير الداعم للحياة كما نعرفها، ربما يعكس الظروف التي تطورت فيها الحياة المبكرة على الأرض، وربما في المريخ!
ولم تكتفِ مجلة «ساينس» بنشر نتائج دراسة بحثية واحدة تؤكد خطأ الاستنتاج المتسرع لـ«ناسا»، بل نشرت دراستين؛ الدراسة الأولى لمجموعة مشتركة بين جامعتي بريستون وكولومبيا البريطانية ومعهد هوارد هيوز الطبي، تنفي ادعاءات «ناسا» باكتشاف شكل جديد من الحياة البكتيرية يزدهر على الزرنيخ. فالبكتيريا لم تستبدل الزرنيخ بالفسفور في جميع أنحاء الحمض النووي الخاص بهذه البكتيريا، أي في بنيانها، وإن كانت قد استوعبت جزيئات صغيرة من الزرنيخ كمادة مُلوِّثة، لا أكثر.
أما الدراسة الثانية فكانت لباحثي معهد علم الأحياء الدقيقة، تؤكد أن البكتيريا رغم قدرتها على العيش في بيئة عالية نسبة الزرنيخ، فإنها تظل محتفظة بالفسفور في تركيبها للبقاء على قيد الحياة، وأن ما وجده علماء «ناسا»، لم يكن شكلاً جديداً من البكتيريا بل هو نوع قديم شديد التأقلم مع بيئة عالية التلوث بالزرنيخ.
حُسمت المحاجة العلمية لغير صالح دراسة «ناسا»، لكن إحدى باحثات «ناسا» أبت أن تتراجع بشكل واضح، فأرسلت إلى وكالة الصحافة الفرنسية بياناً تقول فيه إن البيانات الجديدة التي تنشرها الصحف «تتسق مع الورقة الأصلية» وإنها «تتوقع وزملاؤها نشر معلومات جديدة في الأشهر القليلة المقبلة». وقد مضت سنوات كثيرة، لا أشهر قليلة، ولا يزال الزرنيخ مادة سامة لا تزدهر به أي حياة، وإن كانت تتحمل تلويثه مُكرَهة. ومع ذلك، لم تتوقف خُيلاء الفضاء البشرية عن اللهاث وراء اكتشاف أي شكل من أشكال الحياة خارج كوكبنا، بينما الحياة في الأرض قائمة ولا تزال تجاهد للبقاء، فيما يَعْمَى عن نفاستها غرور غُلاة البشر.