بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

هجمة ليست بريئة

... وهل هناك هجمة تتصف بالبراءة؟ رُبّما يسأل قارئ إذ يطالع العنوان. الجواب هو نعم، من الواجب دائماً افتراض احتمال صفاء النيّة عندما تفزع مؤسسات عالمية إزاء وقوع حدث غير عادي، فتبادر إلى مطالبة الجهات المعنية بإجابات تزيح غموض جوانب الحدث المفزع. إنما حين تأخذ ما يمكن عدّه «فزعة ضمير» - انطلاقاً من فرضية حُسن النية ذاتها - أبعاداً غير مسبوقة على مستوى عالمي، يصبح من الجائز النظر إلى الأمر من منطلق آخر، ومن ثم يصح التساؤل ما حقيقة المُراد من هكذا تحشيد دولي غير مسبوق في التعامل مع حدثٍ يظل، في نهاية المطاف، حالة فردية تخص علاقة مواطن ببلده؟
مبدئياً، يجب القول إن كل إنسان يعقل لا بدّ أصيب بفزع بعدما بدأ يسمع مسلسل تسريب تفاصيل ما زُعِم أنه وقع للصحافي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. لو أن ما سُرّب على مراحل، بعناية كما يبدو، اقتصر على وصف ما جرى بجريمة قتل، لأمكن للمراقب المحايد أن يعد الأمر عاديا. أما تعمّد تسريب أوصاف مفجعة لتلك المزاعم، منذ نهار الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وادعاء وجود تسجيلات مسموعة ومرئية تثبت وقوع تلك التفاصيل المرعبة، فأقل ما يمكن أن يقال فيه هو أنه يكشف وجود نيّة مسبقة لتوظيف جريمة قتل مروّعة في خدمة أهداف سياسية أبعد ما تكون عن الزعم أن «فزعة الضمير» تلك منزهة عن أي غرض سياسي، بدليل أن مسلسل التسريب المُتقن للتفاصيل المفزعة، لم يأخذ في الحسبان أحاسيس أسرة جمال خاشقجي وعواطفهم البشرية تجاه مصابهم المُفجع في الرجل، ذلك أن الهدف الذي وُضع في الأساس، هو وضع المملكة العربية السعودية ككل، دولة وشعباً، أمام وضع حرج، سواء، أولا - وربما هو الأهم - لجهة تماسك الوضع الداخلي، ومن ثَمّ الطعن في حقيقة أن نسيج المجتمع السعودي يأبى، تلقائيا وبالفطرة، تقبّل هكذا جُرم بشع، أيا كان حجم الشخص المطلوب التخلص من موقفه المعارض - كل مهتمٍ متابعٍ يعرف أن الموقف النقدي للصحافي والكاتب جمال خاشقجي لم يكن يشكل ذلك النوع من المعارضة المثيرة للقلق - أو، ثانياً، لجهة زعزعة مكانة الرياض، كونها شكلت دائماً أحد أهم مراكز صنع القرار العربي والإسلامي، وخصوصا خلال أوقات صعبة أو أحداث عصيبة، ثم إنها باتت تشكل، وتحديدا منذ استشراء مخطط التفتيت والتقسيم بغرض إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط الجديد، المركز الأهم في تعزيز استقرار منطقة تصر أطراف عدة، في المنطقة وخارجها، على أن إحكام السيطرة عليها يفرض إضعافها من خلال تشطيرها وتحويل دولها المستقرة إلى كانتونات متصارعة تعيدها إلى زمن دويلات الطوائف.
يبدو واضحا الآن، بعد 3 أسابيع على وقوع ذلك «الخطأ الجسيم» - كما وصفه بحق وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير - أن أيا من الأطراف التي سارعت تبتغي توظيف المأساة للنيل من الدولة السعودية ككل، وبالتالي من مكانتها ومن دورها، شاء أن يأخذ بعين الاعتبار، ولو من باب الافتراض، احتمال انفلات عناصر بجهاز أمن أي دولة ومن ثم إقدامهم على مخاطرة تجاوز الخطوط العريضة عند التعامل مع أي موقف. في هذا السياق، يحضرني كيف سارع إعلاميون عرب وفلسطينيون إلى توجيه أصبع الاتهام مباشرة إلى الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، فور إطلاق الرصاص على رسام الكاريكاتير ناجي العلي في لندن. أذكر أنني دخلت مساء ذلك اليوم الحزين (22 – 7 - 1987) في جدل مع أحدهم، أصر على إصدار بيان باسم الصحافيين الفلسطينيين في لندن يُحمِّل منظمة التحرير الفلسطينية المسؤولية. جادلته يومها أن هذا التسرّع غير مفهوم، والأفضل الانتظار حتى تتضح الحقائق. إنما، كما يبيح أفراد في أي جهاز أمن لأنفسهم التصرف نيابة عن صانع القرار، كذلك يفعل إعلاميون لا يجدون أي حرج في استصدار لوائح اتهام وبناء أحكام استنادا إليها.
يبقى أن فاجعة مقتل جمال خاشقجي - رحمه الله وصبّر ذويه وأحباءه - كان ممكناً تجنبها، وبالتالي تجنّب ارتدادات ما بعدها، لو جرى وضع بعض البديهيات موضع التطبيق، وفي مقدمها المسارعة إلى إصدار توضيح يغلق الأبواب أمام أي توظيف خبيث لما حصل. لكن، يبقى أيضاً أن مشيئة الخالق نافذة، وإرادته هي الغالبة، والعزاء لأسرة الراحل وأحبائه واجبة.