عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الواتساب و«الكنكشة»

تطبيق «الواتساب» دخل حياتنا مع وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى وقلبها رأساً على عقب. أصبح في غضون تسع سنوات، هي عمره منذ تأسيسه، قناة مهمة لتبادل الرسائل والمعلومات والصور والفيديوهات، ووسيلة للتواصل بين الناس. لكنه على الرغم من كل فوائده الظاهرة والملموسة أصبح محيراً ومحبطاً أحياناً، ومثيراً للقلق والقلاقل. المشكلة بالتأكيد ليست في التطبيق بل في طريقة استخدامه من قبل كثير من الناس.
كم من الأخبار التي تمر علينا عبر «الواتساب» فنكتشف أنها مفبركة، وكم من مقاطع الفيديو التي يجري تبادلها على نطاق واسع ليتضح بعدها أنها مزيفة وجرى التلاعب بها على سبيل المزاح، أو بهدف التضليل والتشويش. هذه ليست مشكلة صغيرة أو قضية هامشية، فقد باتت تؤرق كثيرين، وتثير مخاوف جدية من الآثار الضارة التي تحدثها، التي قد تصل إلى حد إثارة القلاقل السياسية والاقتصادية والأمنية، والبلبلة الاجتماعية.
حسب الأرقام المعلنة فإن عدد مستخدمي «الواتساب» بلغ ملياراً و500 مليون شخص حول العالم، يتبادلون 65 مليار رسالة يومياً، و4 مليارات و500 مليون صورة، ومليار فيديو. هذه الأرقام المذهلة من شركة «فيسبوك» التي اشترت التطبيق من مؤسسيه عام 2014 في صفقة بلغت قيمتها 22 مليار دولار، تؤكد أهمية «واتساب» وقدرته البالغة على التأثير في الرأي العام وتوجهاته. فالتطبيق بات الأهم في العالم، بما في ذلك العالم العربي، لتبادل الرسائل متجاوزاً «ماسنجر» و«فيسبوك»، وطغى على حياة الناس، وأسلوب التواصل بينهم، بل وعلى سلوكهم اليومي، إذ بتنا، أو فلنقل كثير منا، مرتبطين بالتطبيق لا نستطيع الابتعاد عنه طويلاً من دون أن نشعر بالفراغ، أو تداهمنا نوبة من القلق على شيء قد يكون فاتنا في هذه المجموعة أو تلك من المجموعات المتعددة التي ننشط فيها. هذه المكانة التي احتلها التطبيق في حياتنا، جعلت تأثيره واسعاً وقوياً سواء سلباً أو إيجاباً.
خلال الأيام القليلة الماضية انشغلت وسائل التواصل الاجتماعي وبالأخص «الواتساب»، إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية في السودان بقضية حمى الكنكشة أو الشيكونغونيا التي انتشرت في منطقة كسلا شرق البلاد. مثل كرة الثلج المتدحرجة بدأ الموضوع يتضخم بسرعة في ظل تداول الناس آلاف المقاطع الصوتية والمصورة، وأكثر منها مقالات وتعليقات. انتشرت التكهنات واختلفت الروايات حول حقيقة ما يحدث، ونوع المرض الذي ألم بالناس، وحول عدد المصابين والمتوفين، في ظل صمت رسمي في البداية ثم تضارب في التصريحات.
كان «الواتساب» سلاحاً ذا حدين، إذ ساعد في تسليط الضوء على ما يحدث في كسلا ومنع محاولات التعتيم من قبل جهات رسمية، لكنه في الوقت ذاته امتلأ بمداخلات مضللة ومعلومات مغلوطة منها معلومات طبية حول التشخيص والعلاج للمرض. فقد تطوع كثيرون بنقل معلومات مضخمة أو مضللة، وأسهموا في تغذية دورة الشائعات. ولأن كثيراً من السودانيين فقدوا الثقة في الروايات الرسمية، فقد أصبح «الواتساب» وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي ملاذا للباحثين عن معلومة أو الذين يريدون نقلها للملأ. وكما هو الحال في «الواتساب» وإخوانه في وسائل التواصل الاجتماعي، فإنه ما إن توضع معلومة أو صورة، مقطع فيديو أو تسجيل صوتي، حتى يعم وينتشر بسرعة مذهلة. المشكلة أن غالبية الناس في تداولهم أو في تلقيهم هذه الأشياء لا يتريثون للتدقيق فيها أو التفكير في مدى صدقية محتواها، بل يأخذونها كمسلّمات وحقائق يبنون عليها ردود فعلهم وتعليقاتهم التي يتبادلونها مع أقرانهم في المجموعات المختلفة.
جزء من المشكلة أن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت نوعاً من التنافس المكتوم لأخذ السبق في نقل الصورة أو المعلومة أو مقطع الفيديو. هكذا ما إن يتلقى الإنسان شيئا حتى يسارع بنقله للمجموعة أو المجموعات التي يشترك فيها. قلة قليلة نمت لديها نزعة التمحيص والتفكير النقدي إزاء كثير مما يمر أمامها في وسائل التواصل الاجتماعي، لذلك تقرأ بتمهل، وتشاهد بتعقل لكي تفرز الصالح من الطالح، ولكي لا تتورط في إعادة تداول ما هو غير صحيح أو مضلل.
في قضية حمى الكنكشة أفتى أناس عاديون لا علاقة لهم بالطب بتشخيصات للمرض من دون حتى أن يشاهدوا أو يتحدثوا مع مريض واحد. ذهبت التكهنات إلى أن المرض هو وباء الإيبولا، بينما قال أطباء ومختصون إن المرض هو «الشيكونغونيا» مع حالات أخرى من حمى الضنك. وصفت مداخلات في «الواتساب» المرض بأنه غريب وغير معهود، في حين أكد اختصاصيون أنه حدث في السابق في كسلا وفي مناطق أخرى وكان محدوداً وتمت السيطرة عليه من دون أن تثار ضجة حوله، فـ«الواتساب» لم يكن موجوداً أو كان استخدامه محدوداً.
التداول الواسع للموضوع ساعد، بالتأكيد، على تحريك السلطات الحكومية إزاء محنة كسلا، لكنه في الوقت ذاته أوجد حالة من القلق والذعر بين الناس، لا سيما عندما بدأ البعض يتداول أخباراً عن انتقال المرض إلى الخرطوم ومدن أخرى.
«الواتساب» يحتاج إلى إعادة نظر من قبل المستخدمين لكي يبقى تطبيقاً مفيداً ومهماً وإيجابياً في حياة الناس، وإلا فإن نجاحه السريع قد يتحول إلى نقمة على التطبيق ذاته... وعلى الناس.