سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

عالم أفضل

نشأنا في المشرق العربي على أن الاستعمار هو بريطانيا وفرنسا. إمبراطوريتان امتد حكمهما، أو سلطتهما، على مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والمغرب والجزائر، وجزء كبير من الخليج العربي. وفي كل هذه المناطق، تركا لغتهما وشيئاً من ثقافاتهما.
بالنسبة إلى ليبيا، لم يكن الاستعمار فرنسياً أو بريطانياً، لكن الفاشية الإيطالية قتلت ثلثي السكان.
الاستعمارات القديمة التي لم يعد أحد يأتي على ذكرها، والتي أصبحت دولاً عادية مثل بلجيكا وإسبانيا وهولندا، كانت الأكثر وحشية. ليوبولد، ملك بلجيكا، أودى بحياة عشرة ملايين إنسان في الكونغو، وطلب من البريطانيين أن يكلفوه تصفية المزيد في مستعمراتهم. ومن جملة ما طلب من «مناقصات»، أن يعطى كل ما هو جنوب الخرطوم (راجع وليم بولك، «الصليبية والجهاد»). وقد رفض البريطانيون طلبه، ليس من قبيل الرأفة، بل لأنه يتعارض مع استراتيجيتهم في أفريقيا.
ماذا كان اسم الهيئة التي عينها ليوبولد للإشراف على تنفيذ سياسته الأفريقية؟ كان، بكل بساطة، هكذا: «الجمعية الكونغولية للاستعمار والاستغلال»! تقدم ليوبولد بطلب مماثل إلى الإيطاليين في إريتريا، ومن حسن حظ البلد أنهم رفضوا، وإلا لكان حجم الوحشيات والإبادات مضاعفاً. الهولنديون أبادوا نحو نصف مليون إندونيسي في حرب الاستقلال. ويكفي أن تقرأ روايات ليو تولستوي لتعرف ماذا فعل الروس في اجتياحاتهم الآسيوية.
لم تكن دولنا وحدها نتيجة إملاء استعماري للخرائط كما في اتفاقات سايكس - بيكو. معظم دول العالم ولدت نتيجة لصراع استعماري أو مخطط استعماري. كتاب حديث عن قيام البرازيل يقول إن الخوف من طموحات نابليون كان سبباً رئيسياً في ذلك. إسبانيا تركت لغتها في قارة بأكملها بعد إبادات لا مثيل لها، وتراجعت هي، مثل بلجيكا أو هولندا، إلى دولة عادية ضمن حدودها، تفتح حدودها للزحف السياحي السلمي. وإلى جانبها دولة عادية أخرى هي البرتغال، ولدت شبه قارة في البرازيل. وتراجعت بريطانيا إلى جزرها، ثم حتى إلى «البريكست»، بعدما ولدت في أميركا وكندا وأستراليا أكبر الدول الأنغلو-ساكسونية.
لم يعش الاستعمار العسكري لكن النفوذ الثقافي استمر على نحو مذهل: الإنجليزية لغة رئيسية في الهند. البرازيل تتكلم البرتغالية. أميركا الجنوبية والوسطى تتحدث الإسبانية، أما المستعمرات العربية السابقة فعادت إلى لغتها الأم، كونها لغة القرآن. ولعب هذا العامل الدور الأساسي في حروب التحرير، خصوصاً في بلاد المغرب.
السياسي تشامبرلين كان يقول إن بريطانيا من دون مستعمرات سوف تصبح دولة فقيرة. العالم أفضل مائة مرة من دون استعمار.