د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

أيام نجيب محفوظ...!

يوم الجمعة الماضي، فتحت صفحات صحيفة «المصري اليوم»، لكي أجد في قلب صفحتها الأولى عنواناً: «وحشتنا يا عم نجيب»، في إشارة إلى مقال للأستاذ مفيد فوزي، يحكي فيه عن حوارات له مع الأستاذ نجيب محفوظ، تبدو كما لو كان إجراؤها تم في الأمس القريب.
زمن الكاتب الكبير ليس الزمن الذي نعرفه، يمضي فيه ما مضى ويأتي له ما هو آت؛ هو زمن من نوع آخر يتجدد مع الأحداث والأوقات، وعندما يكون أي منها جديداً تماماً، فإن الرجل العظيم «يوحشنا»، فماذا يقول في هذه اللحظة؟
وللعلم، فإنني لم أكن من الحواريين الذين تحلقوا حوله في رحلاته الأسبوعية المختلفة بين المقاهي وجلسات القهوة، اللهم إلا في القليل سوف أعود له. فالحقيقة أنه وقت دخولي إلى مؤسسة «الأهرام» عام 1975، للعمل في «مركز الأهرام للدراسات»، كان الوجل يتملكني عندما أدخل أياً من المصاعد، فأجد فيها توفيق الحكيم، أو نجيب محفوظ، أو يوسف إدريس، أو لويس عوض، أو زكي نجيب محمود، وفي العادة ولسبب لا أعرفه، فإن المصعد كان يشغله دائماً عدد منهم، وكأنهم جميعاً يأتون على موعد، أو أن عادات هذا الجيل كانت هكذا. لم تكن المسافة بيننا في المركز وبينهم في الدور السادس من الصحيفة كبيرة، فقد كان الجانب الآخر من الحجرات تشغله مجلة «الطليعة»، وثروت أباظة، والنخبة العظمى توجد فيما يسمى بالبرج الأمامي من المبنى.
ظل الحال كذلك حتى بدأ عدد منهم التعرف على تلك المجموعة من الشباب المنشغلين بالبحث العلمي في مجالات تخص الصراع مع إسرائيل، وما يحدث من تغيرات في العالم بطريقة مختلفة عما تعودوا عليه. كان لطفي الخولي، ولويس عوض، ويوسف إدريس، أول من جاءوا إلى الحجرة 626 للحديث مع «الشباب»، أما نجيب محفوظ فقد انتظر سنوات حتى جرى اللقاء المباشر.
أظنها كانت انتخابات برلمانية ستجرى في مصر عام 2000 فيما أذكر، عندما وجدنا الأستاذ نجيب محفوظ يعلق في عموده على النقاش الدائر في تلك الأيام عن احتمالات نزاهة العملية الانتخابية، وإذا به يرى أن الحل أن يقوم «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» بالرقابة على الانتخابات. لم يلقَ الاقتراح اهتماماً من أحد، وجاءت الانتخابات كما كانت تأتي كل مرة، ولكنني والزملاء في المركز وجدنا من الواجب، وربما من المناسبة، الصعود إلى مكتب الأستاذ نجيب محفوظ للشكر والتقدير. وهو ما كان، وبقيادة الأستاذ السيد ياسين ذهبت جماعتنا، فكان الحديث الأول المباشر بيني وبين الكاتب الكبير. وعندما مر الحديث بجائزة نوبل، حكيت كيف كان الطقس رائعاً في واشنطن ذات يوم، ومررت بالمكتبة الشهيرة في ميدان «دوبونت»، فإذا بي أجد فيها مجموعة روايات نجيب محفوظ التي قرأتها عدة مرات باللغة العربية، فإذا بها أمامي باللغة الإنجليزية. كنت في طريقي إلى لقاء مع بيل كواندت، أستاذ العلوم السياسية المعروف، وعضو مجلس الأمن القومي في إدارات نيكسون وفورد وكارتر، والآن في مؤسسة «بروكينغز» في شارع ماساتشوستس المتفرع من الميدان. وما إن دخلت إلى مكتبه حتى وجدته يفتح ذراعيه على طريقة جماعتنا في الشرق الأوسط، قائلاً بالعربية: «مبروك». ورغم أنني لم أكن أعرف سبب هذه التهنئة، فإنني من سياق ما قال عرفت أن نجيب محفوظ فاز بجائزة نوبل العالمية، وفهمت فوراً لماذا كانت كتبه في صدارة المكتبة. بعدما حكيت، ابتسم نجيب محفوظ ابتسامة واسعة، وكأن غيري حكى القصة نفسها عدة مرات من قبل!
تعددت اللقاءات مع نجيب محفوظ في مكتبه، وأثناءها نشر الأستاذ رجاء النقاش كتاباً عن نجيب محفوظ كانت أشبه بمذكرات له، وفي تعليقي على الكتاب كانت واحدة من ملاحظاتي أن عالم الروائي الكبير ظل دوماً منحصراً في مساحة جغرافية بين النيل والقلعة، ورغم أنه جعل هذا العالم الضيق فسيحاً للغاية، فإنه افتقد عوالم مصرية أخرى بدت على الهامش أو لم تكن لها أهمية. جرت تعليقات سلبية على ما علقت، على اعتبار أن عالم نجيب محفوظ الصغير يعبر عن الإنسانية جمعاء؛ ولكن المفاجأة كانت وصول تلغراف منه مكون من كلمات قليلة تشكرني على الاهتمام. لم أكن أعرف عما إذا كان ذلك عتاباً أو شكراً لا أستحقه، ولكن ذلك كان دافعاً لكي أستجيب لدعوة من الصديق رضا هلال، لكي أذهب معه إلى واحد من تجمعات نجيب محفوظ التي كانت تجري في فندق «شيبرد»؛ حيث الجماعة من اليسار المصري من المفكرين والأدباء. وجدت نفسي جالساً بجواره، ومن يحصل على هذا الشرف فإن عليه أن يقرأ للأستاذ ما تجب عليه قراءته من أخبار ومقالات الصحف، وأجزاء من كتابات أدبية أراد أصحابها عرضها على الأستاذ الكبير. كانت حاسة السمع عند كبيرنا تدهورت، ومع ذلك فإن وجدانه وانتظامه كان حاسماً في مواعيد القهوة والحضور والذهاب. تكرر الأمر ثلاث مرات، بعدها توقفت، ولم يكن ذلك لملل من القراءة، وإنما لأن صحاب الجلسة كان لديهم كثير مما يقولونه أكثر من الحائز على جائزة نوبل.
هذا المقال ليس مخصصاً للحديث عن عالم نجيب محفوظ وأعماله الأدبية؛ ومع ذلك فإن السؤال المُلح هو: ماذا كان سيقول هذا العقل الفذ في يومنا هذا، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ نجيب محفوظ توفي في الثلاثين من أغسطس (آب) 2006، قبل أربع سنوات مما جرى في منطقتنا من ربيع لم تنبع منه زهرة، ولا كان فيه نسيم، وبعدها جاءت الزوابع الرملية الساخنة. الرجل خلق شخصيات من الجبابرة، مثل «الجبلاوي» في «أولاد حارتنا»، و«عاشور الناجي» في «الحرافيش»، والسيد أحمد عبد الجواد في «الثلاثية»، وفي بقية القصص، فإن «العائش في الحقيقة»، و«قشتمر»، وغيرهما، كان فيها نوع من المحاكمة والمساءلة، بما فيها من عريضة اتهام إلى الدفاع عن نظم وقادة ومجتمعات. الآن فإن الدنيا كلها انقلبت رأساً على عقب، ولم يعد الزمن هو الزمن، وما جرى من تطورات فيها من حيرة التقدير ما يستدعي الحكماء والرواة.
نجيب محفوظ كان إصلاحياً بامتياز، والبعض شبهه بشخصية كمال عبد الجواد في «الثلاثية»؛ حيث كان متعاطفاً ووجلاً مع اليسار، ومتفهماً وناكراً لمن ذهبوا مذهب الدين السياسي، ومتحمساً مصاباً بخيبة الأمل في ثورة 1919، ومن بعدها ثورة يوليو (تموز) 1952، ومحاوراً لعبد الناصر والسادات، وفي أحيان كان يتخلص من ذلك كله للبحث في تجليات الطبيعة الإنسانية، وما فيها من تعقيدات وتركيبات غامضة، تمتزج فيها الصوفية مع الفلسفة، والتسامح مع اليقين، وانعدامه في الوقت ذاته.
ماذا كان سيقول الرجل في يومنا هذا بـ«داعشيته»، وثوراته، وصعوباته، وقلقه، وأجياله الجديدة الغائبة والحاضرة في آن واحد؟ ربما كان نجيب محفوظ آخر لا يزال على الطريق، قابعاً الآن على لوحة مفاتيح الحروف، يكتب عن العالم الذي نعيشه ولا نعرفه.