ديفيد اغناتيوس
صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة "واشنطن بوست". كتب ثماني روايات، بما في ذلك "جسد الأكاذيب"
TT

كيم جونغ أون ينفذ حيلة سحرية

يستحق الرئيس دونالد ترمب الإشادة لتمكنه من استغلال الفرصة الدبلوماسية السانحة خلال قمة سنغافورة. ومع هذا، يبقى الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون الشخص صاحب الدور الأكبر في صياغة شكل هذا اللقاء الاستثنائي. كان ترمب قد وصف زعيم كوريا الشمالية، بأنه شاب «موهوب للغاية» تمكن من إنجاز شيء «لا تتجاوز احتمالية إنجازه 1 في الـ10000».
في الواقع، يبدو ما حققه كيم أشبه بخدعة سحرية، فقد نجح في الفوز بترمب كشريك له في إعادة رسم صورة بلاده الفقيرة وشديدة الاستبداد كمشروع استثماري حديث. وطرح جونغ أون وعوداً مبهمة بـ«العمل نحو إتمام نزع التسليح النووي»، وتمكن بصورة ما من إقناع ترمب بوصف الإعلان الواهن الصادر في نصف صفحة فقط عن القمة بأنه اتفاق «شامل للغاية».
ومن يدري، ربما يؤدي هذا الاتفاق نهاية الأمر إلى نزع تسليح كامل، ويمكن التحقق منه، ومن المتعذر التراجع عنه ـ الهدف الذي أعلن الرئيس أنه يسعى لتحقيقه. بيد أنه في الوقت الراهن، لم يقدم كيم سوى القليل للغاية من التنازلات العسكرية في مقابل حصوله على الاعتراف العلني من أقوى دولة بالعالم. الأهم من ذلك أن كيم حصل للمرة الثانية، وبأقل تكلفة، على تعهد من الولايات المتحدة بوقف التدريبات العسكرية المشتركة مع كوريا الجنوبية، الأمر الذي يقوّض أكبر رادع يواجهه نظامه.
من ناحيته، وفي أعقاب القمة التي عقدت مؤخراً، احتفى ترمب بقدرته على عقد اتفاقات، قائلاً: «هذا ما أفعله. كانت حياتي كلها اتفاقات. وقد أبليت بلاءً عظيماً في هذا الشأن». إلا أن الأمر الأكثر لفتاً للانتباه كان استعراضه الأخير لقدراته بمجال التمثيل، كما لو كان نجماً في أحد برامج تلفزيون الواقع، ومهاراته في إلقاء كل عبارة بصدق بالغ، كما لو كان صحيحاً، مهما كانت الشكوك المحيطة بمصداقيتها.
ومن يدري، ربما يستعد ترمب اليوم لتدريب فتى جديد طموح ليخلفه بمجال التمثيل. الحقيقة أنه عندما تشاهد طريقة ترمب في التحية والتودد إلى الزعيم كوري الشمالي، توشك أن تنسى أن كيم ومنذ زمن وهو في طريقه إلى سنغافورة قتل عماً له وأخاً غير شقيق. من جانبه، شرح ترمب أنه يكن الاحترام «لأي شخص يتحمل مسؤولية كتلك التي تحملها في سن الـ26، ويتمكن من الاضطلاع بها ببراعة». تهانينا يا كيم، لقد انضممت إلى قائمة المتدربين!
ولا أقصد من حديثي هذا التقليل من الفائدة المحتملة على العالم من وراء القمة. في الواقع، لقد أصبح العالم أكثر أمناً اليوم عما كان عليه منذ أسبوع مضى، ويحظى ترمب بإشادة مستحقة عن هذا الأمر.
ومع ذلك، يتعين علينا النظر إلى اجتماع سنغافورة في صورته الحقيقية: لقد أطلق كيم الكرة منذ خمس سنوات بدعوته التي لم يلتفت إليها الكثيرون إلى «نزع الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية» و«عقد محادثات رفيعة المستوى» مع الولايات المتحدة. منذ ذلك الحين، نجح كيم ببراعة في إجراء مناورات مستمرة ـ بدءاً من تحدي التهديدات التي أطلقها ترمب العام الماضي بمحو كوريا الشمالية في خضم موجة من «النار والغضب» وصولاً إلى التطوير الكامل لصواريخ محملة برؤوس نووية قادرة على تهديد الأراضي الأميركية. وبمجرد امتلاك كيم لهذه القدرة في نوفمبر (تشرين الثاني)، شرع في الميل نحو الدخول في مفاوضات.
لقد كان استعراضاً مذهلاً للجرأة من جانب كيم وترمب دفعا خلاله بعضهما البعض نحو حافة جرف خطير، ثم تراجعا في اللحظات الأخيرة. إلا أنه بحلول نهاية القمة، بدا واضحاً أن كيم يحصل على أكثر مما يعطي، وأن ترمب راودته رغبة ملحة للغاية في عقد مثل هذه القمة لدرجة جعلته مستعداً للتغاضي عن بعض المطالب التي سبق وأعلنها. ويبدو هذا تحديداً نمط الاتفاق الذي حذر منه مستشار الأمن الوطني جون بولتون منذ 25 عاماً ـ ويدور حول فكرة فتح الباب أمام بيونغ يانغ مقابل وعود غير قاطعة.
من جانبي، أعتقد أن ترمب محق في رهانه على أن جهود التحديث والنمو الاقتصادي التي تقودها الولايات المتحدة ستتمكن بمرور الوقت من تحقيق تغييرات سياسية بإمكانها تقليص التهديدات النووية المحتملة للولايات المتحدة وحلفائها. إلا أنه ليس بوسعي منع نفسي من التساؤل: ألم تطرأ على ذهن ترمب فكرة أن هذا تحديداً ذات الرهان الذي أقدم عليه الرئيس باراك أوباما من خلال الاتفاق النووي الإيراني، الذي كثيراً ما يصفه ترمب بأنه «أسوأ اتفاق جرى عقده على الإطلاق»؟ الواقع أن الاختلاف الرئيس بين الاتفاقين أن أوباما حصل على التزام حقيقي، ويمكن التحقق منه بتدمير المخزون النووي الإيراني قبل تقديم واشنطن أي تنازلات كبرى.
ويتمثل جانب أخير صادم فيما يتعلق بالقمة في الهجوم غير المبرر الذي شنه ترمب ضد كوريا الجنوبية، الحليف الديمقراطي المخلص. ولا أقصد بذلك قرار ترمب المفاجئ بتجميد التدريبات العسكرية الكورية الجنوبية ـ الأميركية «الاستفزازية»، ذلك أن الولايات المتحدة لا تزال تملك الكثير من القوة العسكرية بالجوار، إذا لزم الأمر. ودعونا حتى نقبل بإصرار ترمب على أنه «عند نقطة ما» سيتعين على الولايات المتحدة سحب قواتها البالغ قوامها قرابة 30 ألف جندي، رغم أن وجودهم يبث الطمأنينة لدى كوريا الجنوبية واليابان وحتى الصين.
في الواقع، جاءت الإهانة الصادمة حقاً التي أقدم عليها ترمب في تلميحه إلى أن الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي، إن أقدم على الخطوة الجريئة المتمثلة في محاولة التقارب مع كيم من أجل الحد من التهديدات في مواجهة أولمبياد بيونغ تشانغ الشتوي، وبالتالي جني أموال. وقال ترمب خلال مؤتمر صحافي: «لم يتمكنوا من بيع تذاكر بمعدل جيد، لكن انطلقت مبيعات التذاكر بسرعة صاروخية» في أعقاب موافقة كوريا الشمالية على المشاركة، حسبما قال ترمب.
في النهاية لا يسعنا سوى الاعتراف بأن الدبلوماسية ليست دوماً مهمة مستساغة. وفي بعض الأحيان، يقدم أشخاص مثيرون للشكوك على فعل أمور جيدة للغاية. لذا دعونا اليوم نحتفل بنجاح ترمب في سنغافورة، ونأمل أن يتمكن شخص ما من ترجمة مبدأ «الثقة مع التحقق» الذي أقره الرئيس رونالد ريغان إلى الكورية.
-خدمة «واشنطن بوست»