د هيثم هادي نعمان الهيتي
كاتب وباحث عراقي مقيم في الولايات المتحدة
TT

إفلاس المالكي

إن ما حصل في الموصل، وامتداده لمحافظات عراقية أخرى في كل من صلاح الدين والأنبار وديالى، والانهيار الأمني في معظم مناطق العراق، جاء نتيجة لسياسات المالكي الفاشلة على مدى السنوات الثماني الماضية. ولقد شكل رد الفعل الأميركي الصادم للمالكي بعدم التدخل العسكري المباشر وعلى لسان الرئيس الأميركي أوباما نفسه، إضافة للمطالبات الأميركية التي أصبحت واضحة بتنحي المالكي، وانتقاده على سياسته الطائفية، المرحلة الأولى في نهايته وإفلاسه السياسي.
وتأكيدا على إفلاسه، طالب المالكي الولايات المتحدة بالتدخل العسكري المباشر لحمايته من الإرهاب، على حد قوله، ثم عاد وانتقد مطالبات الولايات المتحدة بتنحيته واعتبر ذلك تدخلا في الشأن العراقي الداخلي.
لقد عزز المالكي سلطته من خلال إبقاء كل المناصب في يديه، وكان يعتقد أنه يستطيع بهذه الطريقة تطبيق السلطة الصارمة على العراق، إلا أنه لم يستطع أن يبني دولة، بل أضاع الدولة وفتتها، وشكل ذلك الغياب أو الضياع للدولة العراقية العامل الرئيس في هزيمة ما يسمى «جيش المالكي» في الموصل وبقية المناطق وانسحابه بهذا الشكل المهين أمام قوة عددية ضئيلة، حيث إن غياب الدولة وضياعها هو السبب الرئيس لهذا التقهقر الفاجع.
إن الجندي العراقي لم يجد دولة ليدافع عنها، لذا فإن دعوة التحشيد العشوائي والهمجي الحالية التي يقوم بها المالكي وبعض القوى السياسية، هي تطبيق يتناغم مع الدولة الضائعة، والدولة تضيع عندما تفقد رجالها.
إننا في الحقيقة لا نعيش أزمة السيد المالكي فحسب، بل إننا نعيش أزمة العقل السياسي المتخلف. والحل الوحيد لأزمة العراق في استبدال المنهج السياسي غير المشرف الذي لا يشرف العقل العراقي والعربي.
لقد عانى العراق، ولا يزال، من إدارة البلاد بعقل عدواني، لا يستطيع أن يرى الآخر إلا في صورة العدو، حيث إن هناك كثيرين يدعون السيد المالكي مرارا وتكرارا للاستقالة، ويدعون لتشكيل حكومة إنقاذ وطني، وهناك من يدعو إلى الانفتاح والتفاوض وإصلاح الحال، ولكن هذه الدعوات لن تجد آذانا صاغية، لأن هناك طريقة تفكير واحدة وعقلا مفلسا سياسيا، وقد نشأ هذا العقل في ظروف معينة، ولا يمكن تغييره بسبب تجذره عبر الزمن، فقد أصبح حالة متماسكة من ثقافة محددة وضيقة. ويمكننا تمييز هذا العقل من الخطاب السياسي للسيد المالكي، فمرة يعود بنا إلى مئات السنين ليحاضر في التاريخ، ومرة يصف الناس بـ«الفقاعة»، وتارة يطلق شعار «الدم بالدم»، ومرة يهدد بالإعدام.. لذا فلا جدوى من عقلية كهذه، وهي ستجرنا للدمار حتما. ولقد أصبح العراق اليوم على مفترق طرق، أو إنه مجبر على أن يسلك أحد الطريقين؛ فإما المالكي ومنهجه العدواني، وإما التقسيم. والسؤال هنا: هل إعادة الحقوق وإصلاح البلد لن يكون إلا بالتقسيم؟
إن ما حصل بالموصل وما يحصل في عموم العراق، هو في حقيقته رد فعل على جرح عميق، وإدارة سياسية غبية سياسيا.. تابعة، ومتعصبة، وجاهلة، والحل لن يكون بتقسيم أو بـ«فدرلة العراق» أو إبقاء هذه الإدارة، بل الحل بحكومة لا سياسية ولا تمت للطبقة السياسية الحالية في العراق بصلة، أي تأسيس حكومة كفاءات وخبراء لإنقاذ العراق، لأننا بحاجة إلى عقل متسامح.. عقل كعقل مانديلا لننجو في قاربنا الوحيد؛ العراق.
إن من يتوقع أن هذه الأحداث ستمر مرور الكرام، فهو مخطئ خطأ كبيرا، حيث إن هذه الأحداث لن تغير العراق فحسب؛ بل إنها ستأثر في المنطقة بمجملها، ولقد كتبت صحيفة الـ«إندبيندنت» البريطانية أن الشرق الأوسط القديم قد مات بعد أحداث الموصل.
لذا، فإن العملية السياسية في العراق لن تكون قادرة على أن تستمر، وهي شارفت على نهايتها، وسيعلو صوت السلاح على صوت العقل، وقد ينتظر البغداديون النار والألم، والحرب إذا لم يتدارك الأمر بحكومة ليست بطائفية.
إن الحقيقة السياسية التي لا يريد أن يدركها رئيس الوزراء العراقي هي أنه أفلس سياسيا، خاصة بعد أن أطل علينا يهدد بـ«الإعدام» لكل من لا يشاركه بالقتال. إن هذه الدعوة دعوة الضعفاء ودعوة الإفلاس السياسي ومحاولة أخيرة للترهيب.
كما أن تهديد المالكي بـ«الإعدام» لكل من لا يقاتل بجانبه إلغاء للديمقراطية المزعومة، وإلغاء لبقايا الدولة العراقية، وإلغاء لما يطلق عليه «دستور»، وإلغاء لما بقي من قضاء عراقي.. إنه منطق الإرهاب والتخويف وإلغاء ما يسمى «العملية السياسية في العراق»، وبدلا من الاستقالة بسبب الفشل وانهيار الجيش، وما تبقى من اللحمة الاجتماعية، يهدد بالإعدام.
إننا الآن، ببالغ الأسى، في انتظار «مرحلة التصادم»، فالكل يعمل بتهور ويحضر نفسه للقادم. الناس في بعض المناطق تجمع الغذاء والدواء، والبعض يجمع السلاح ويجتمع، وقوى أخرى تحشد الجموع وتجييشهم ضد إخوانهم.. يبدو أن القادم أسوأ وأصعب.
ولا يوجد أي صوت للعقل يدعو الناس للسلام وإنهاء الكراهية، حيث إن العراق يحتاج إلى صوت عال، ولرمز له مكانته يدعو للحل؛ والحل النهائي وليس للحرب والقتل، إضافة لذلك، فإنه لا يمكن اختصار ما يحصل في «داعش» وإن لم ينكر وجودها، ولكن الحقيقة أنها ثورة جماعية لعدة قوى عانت ما عانت خلال السنوات العشر الماضية.. إنهم رجال الجيش العراقي والمهمشون والمظلومون.
إن ما حصل هزيمة نكراء ليس للمالكي فحسب؛ وإنما للنظام السياسي في العراق بكاملة، وإقرار الطوارئ ليس حلا لهذه الهزيمة، بل الحل في الاعتراف بالفشل وتشكيل حكومة إنقاذ من التكنوقراط (حكومة كفاءات) لتدير البلاد وتصحح الطريق، أما الانزلاق الطائفي والاعتماد على الميليشيات، فيعني إعلان حرب أهلية وتقسيم العراق رسميا وعمليا.
ويبدو أن العقل السياسي العراقي أصيب بعمى الألوان في تمييز الحق من الباطل، وقد تمزقت الأخوة العراقية لأبعد الحدود، وأصبحت الطائفة الهوية الأبدية، ولا وجود لأي هوية عراقية.
ورغم أن هناك رقما عراقيا صعبا رافضا لكل ما يحصل في العراق، فإن هذه القوى مشتتة ومتباعدة؛ فيهم من يرفض الانتخابات، وفيهم من يشارك، وفيهم من هاجر ويكتب ما في باله عن الوطن الجريح.
إن هذه القوى بحاجة للتوحد والإعلان عن أنها «معارضة» للعملية السياسية في العراق، ولكن معارضة بصيغة سياسية، ويحب أن تحدد لها برنامجا سياسيا للعمل، ويحب أن تعمل لعقد مؤتمر وطني لإنقاذ العراق بعد إفلاس المالكي منتج العملية السياسية التي مضى عليها 11 عاما.

* كاتب وباحث عراقي مقيم في الولايات المتحدة