كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا

صنعت شهرته فضيحة «كمبريدج آناليتيكا» وتداعياتها العالمية

كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا
TT

كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا

كريستوفر وايلي... نجم المصادفة والتكنولوجيا

سرّب محلل البيانات الكندي كريستوفر وايلي، أخيراً، معلومات مثيرة وغاية في الخطورة عن تورّط شركة استشارات سياسة في التأثير على آراء الناخبين وفقا لملفاتهم في الشبكات الاجتماعية، وذلك خلال الانتخابات الأميركية السابقة واستطلاع الرأي الخاصة بالاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن خلال ما قاله وايلي، كان بين الأطراف الضالعة في الفضيحة - بجانبه - كل من شركة «كمبريدج آناليتيكا» البريطانية والمجموعة المالكة لها «إس سي إل»، وستيف بانون المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، وألكساندر نيكس المدير الحالي لـ«كمبريدج آناليتيكا»، والملياردير روبرت ميرسر أحد كبار داعمي الرئيس ترمب و«حزب استقلال المملكة المتحدة» UKIP، والباحث الروسي ألكساندر كوغان، وشركتا «أغريغيت آي كيو» الكندية و«بلاك كيوب» الإسرائيلية، ورئيس UKIP نايجل فاراج وشركة «فيسبوك».
ولقد طالب الكونغرس الأميركي ومجلس العموم البريطاني سماع إفادة وايلي، وكذلك مارك زوكربيرغ، مؤسس «فيسبوك» حول ملابسات ما حدث، مع استمرار كشف وايلي المزيد من تفاصيل ما حدث إبان فترة عمله في «كمبريدج آناليتيكا».
فجّر الشاب الكندي كريستوفر وايلي Christopher Wylie مفاجأة «عالمية» من العيار الثقيل خلال شهر مارس (آذار) حول عملية تحايل على نظام «فيسبوك» بهدف سرقة بيانات ملفات ملايين المستخدمين للتأثير على رأي الناخبين الأميركيين إبان الانتخابات الرئاسية السابقة، واستطلاعات الرأي المتصلة بالاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولكن من هو هذا الشاب الذي أصبح اسمه متداولا بين ليلة وضحاها، وكيف استطاع الحصول على هذه المعلومات الخطيرة؟
- النشأة وبداية المسيرة
كريستوفر - أو «كريس» - وايلي شاب كندي يبلغ من العمر 28 سنة. والده هو الدكتور كيفن وايلي ووالدته الدكتورة جوان كاروثرز. ولقد نشأ في مدينة فيكتوريا عاصمة ولاية بريتيش كولومبيا في أقصى غرب كندا، لكنه مرّ بمرحلة صعبة في المدرسة، حيث أزعجه الكثير من الطلبة المتنمّرين، واعتدى عليه شخص مختل عقلياً عندما كان عمره 6 سنوات فقط، وأخفت مدرسته هذا الأمر ولكنه استطاع الحصول على تسوية بقيمة 290 ألف دولار كندي في العام 2000، وإبان طفولته شخصت معاناته من متلازمة عسر الكلام واضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط، ليترك المدرسة بسبب كرهه لها وغضبه من النظام التعليمي عندما كان لا يزال في سن الـ16 من دون أي مؤهلات تساعده في الحياة.
مع ذلك، عمل الشاب الموهوب العديم الخبرة مع السياسي الكندي الليبرالي السابق مايكل إغناتييف عندما كان عمره 17 سنة، وتعلم بعد ذلك علوم البيانات من كين ستراسما، الاستراتيجي السياسي للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ومن ثم علّم نفسه البرمجة عند بلوغه سن 19 سنة، واستطاع بفضل فطنته الواسعة الحصول على عمل في حزب الأحرار الكندي الليبرالي (الحاكم حالياً) كخبير رقمي قبل أن ينتقل إلى بريطانيا في سن العشرين، ويدرس الحقوق في إحدى أشهر جامعاتها، مدرسة لندن للاقتصاد.
عمل وايلي حزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني في العام 2012، وساعد الحزب يومذاك في ترقية نظام قواعد بياناته وآلية استهداف الناخبين. واليوم يصف وايلي نفسه بأنه «نباتي، ومثلي الميول الجنسية، وينتمي إلى حزب الأحرار الكندي وحزب الديمقراطيين الأحرار البريطاني».
- أول السلّم... صعوداً
عندما كان عمره 23 سنة، برزت أهميته حين سعى للحصول على شهادة في التنبؤ بنزعات الأزياء، واستطاع ابتكار طريقة تحلّل البيانات الضخمة والشبكات الاجتماعية لاستهداف الناخبين في الانتخابات. ومن ثم تعرف على مجموعة «إس سي إل» SCL التي أسست شركة «كمبريدج آناليتيكا» البريطانية للاستشارات السياسية. وبدأ حينذاك يفكر بكيفية استخدام ما يفضله الأفراد للتنبؤ بتصرّفاتهم السياسية، ولم يلبث أن عرض عليه ألكسندر نيكس، مدير شركة «كمبريدج آناليتيكا»، عملاً في الشركة وفرصة لتطبيق أفكاره الجنونية. وبالفعل، باشر وايلي العمل في الشركة التي كانت تعمل مع وزارات الدفاع الأميركية والبريطانية في مجال حروب البيانات، ولتبدأ عندها مرحلة «عمليات المعلومات» التي نالت إعجاب الاستراتيجيين السياسيين، بمن فيهم ستيف بانون.
بانون، المستشار السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، كان حلقة الوصل بين «كمبريدج آناليتيكا» وحملة الرئيس الأميركي - إذ كان بانون يترأس «كمبريدج آناليتيكا» في السابق - التي يموّلها الملياردير اليميني المتشدد روبرت ميرسر، المؤيد لدونالد ترمب، إذ يعتبر ميرسر أكبر المستثمرين في «كابريدج آناليتيكا» بـ16 مليون دولار أميركي. ومن جهة ثانية، تعاون بانون مع باحث علوم نفسية روسي في جامعة كمبريدج البريطانية العريقة، اسمه ألكسندر كوغان، من خلال شركة الباحث «غلوبال ساينس ريسيرتش» Global Science Research التي قدّمت البيانات إلى «كمبريدج آناليتيكا». وما يزيد الأمر سوءاً أن كوغان هذا تعاون مع شركة نفط روسية مقرّبة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان بالادعاءات السائرة في الولايات المتحدة بأن الحكومة الروسية تلاعبت بالانتخابات لصالح ترمب، والذي قد يعني أن عملية انتخاب الرئيس الأميركي ليست شرعية.
- الصلة مع «فيسبوك»
وايلي ادعى أن «كمبريدج آناليتيكا» استغلت آلية في «فيسبوك» لجمع معلومات من ملفات الناخبين المستهدفين من خلال تطبيق خاص أطلقه الباحث كتجربة علمي، ثم تكوين ملف نفسي متكامل لكل منهم وفقا لما يحبّونه ويكرهونه من المنشورات ومّن هم أصدقاؤهم. وبعد ذلك بوشر العمل على إيجاد سبل للوصول إليهم والتأثير عليهم وتطوير الدراسات لتحليل بيانات الأفراد المستهدَفين في «فيسبوك» من خلال التطبيق الذي يتطلب الدخول إليه ما يعرف في عالم البرمجة بواجهة برمجة التطبيقات Application Programming Interface API.
هذا الأمر يتيح لأطراف غير تابعة لـ«فيسبوك» بالحصول على بيانات من مستخدمي «فيسبوك»، وليس فقط من يستخدم التطبيق المخادع، مثل جميع من يتواصل معهم في الشبكة، وذلك بهدف إيجاد نماذج للشخصيات واستغلال ما يفضلونه وما يؤثر بهم لبناء الحملات الانتخابية واستهدافهم بشكل أفضل. كذلك نشرت الشركة أخبارا مزيفة للتأثير في قرارهم الانتخابي. ولقد ضم فريق العمل مصممي رسوم وكتّاباً ومنتجي أفلام ومصورين عكفوا على إنتاج محتوى مضلل بأشكال عديدة حسب اهتمامات المجموعات المستهدفة.
- مرحلة عمل جديدة
كريستوفر وايلي ترك العمل في «كمبريدج آناليتيكا» عام 2014، وتواصل مع «فيسبوك» وأخبرهم بما تفعله الشركة. وقدم أخيراً مجموعة رسائل بريد إلكتروني ووثائق تثبت أن شركة «كمبريدج آناليتيكا» استطاعت سرقة معلومات من حسابات «فيسبوك» تابعة لملايين الناخبين المستهدَفين في حملتي الانتخابات الأميركية والاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. من جهة ثانية، ذكر وايلي أيضاً، أن شركة «أغريغيت آي كيو» الكندية المرتبطة بـ«كمبريدج أناليتيكا» عملت أيضاً للمساعدة في استهداف البريطانيين لتحفيزهم على التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ذلك أنه كان للحملة الرسمية لدعم التصويت لصالح الخروج إمكانية الوصول إلى البيانات التي سبق جمعها بطريقة غير مباشرة من مستخدمي «فيسبوك»، وأن «أغريغيت آي كيو» اعتمدت على قواعد بيانات «كمبريدج آناليتيكا» لعملها في استفتاء الاتحاد الأوروبي. وأوضح بأن «أغريغيت آي كيو» طوّرت برنامج كومبيوتر اسمه «ريبون» واستخدمته لتحديد هويات الناخبين المحتملين من خلال تحليل بياناتهم في «فيسبوك». وللعلم، كان روبرت ميرسر أحد كبار داعمي «حزب استقلال المملكة المتحدة» الذي قاد حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولقد قدّم جميع خدمات «كمبريدج آناليتيكا» مجاناً إلى نايجل فاراج رئيس ذلك الحزب، الذي لم يبلغ السلطات البريطانية عن هذا الأمر.
- الزاوية التقنية
كيف حدث ما حدث، من الزاوية التقنية؟
وفق المعلومات التي أدلى بها وايلي، استخدم الباحث الروسي ألكسندر كوغان تطبيقاً خاصاً كتجربة اجتماعية ونفسية على مئات الآلاف من المستخدمين الذين كان يجب عليهم مشاركة بياناتهم الخاصة بـ«فيسبوك». ومن ثم، استطاع التطبيق معرفة عادات المستخدمين ورغباتهم، وجمع المزيد من البيانات عنهم وعن أصدقائهم دون علمهم أو موافقتهم. وفيما بعد، قدّم هذه البيانات إلى شركة «كمبريدج آناليتيكا» لتحليلها واستنباط شخصية كل مستخدم، وإعداد إعلانات وأخبار ملفقة للتأثير على رأيهم الانتخابي، وذلك - حسب زعمه - بهدف مساعدة المرشح الجمهوري يومذاك دونالد ترمب على الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية بمطلع نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016 من خلال مستشاره السابق ستيف بانون. وفي بريطانيا، أمر شبيه بذلك حدث مع قضية التأثير على نتيجة الاستفتاء الخاص بمسألة خروج بريطانيا من أسرة الاتحاد الأوروبي.
- بخاري... وواينشتين
وفي السياق ذاته، ولكن في مواضع أخرى، زعم وايلي خلال شهادته أمام البرلمان البريطاني بأن «كمبريدج آناليتيكا» استعانت بشركة استخباراتية إسرائيلية خاصة اسمها «بلاك كيوب» لاختراق حسابات الرئيس النيجيري محمد بخاري والوصول إلى سجلاته الطبية ورسائل البريد الإلكتروني الخاصة به. وحسب زعمه، جرى التعاقد بين «كمبريدج آناليتيكا» و«بلاك كيوب»، من خلال شركة «أغريغيت آي كيو»، لاستخدام البيانات التي حصلت عليها «بلاك كيوب» لنشر عروض فيديو معادية للمسلمين على «فيسبوك» بهدف الإضرار بحملة الرئيس بخاري. وأضاف أن «كمبريدج آناليتيكا» سعت أيضاً للتأثير على العديد من الحملات الانتخابية في دول نامية بشكل منتظم.
وبعيداً عن السياسة، أشار وايلي إلى أن شركة «بلاك كيوب» الإسرائيلية قدّمت خدماتها للمنتج الهوليوودي المعروف هارفي واينستين لردع النساء اللواتي اتهمنه بالتحرّش أو الاعتداء الجنسي خلال عقود من الإساءة في أروقة هوليوود الفنية. وكان موظفان يعملان في «بلاك كيوب» قد أدينا بتهمة التجسس على أعلى مسؤول لمكافحة الفساد في رومانيا في العام 2016.
هذا، ويصف صحافيون في صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية كريستوفر وايلي بأنه شخص ذكي وصاحب روح دعابة، كما أنه يتذمر كثيراً وحديثه مليء بالكلمات النابية، وهو فضلاً عن ذلك نهم ثقافيا ويحب تعلم المزيد، وبارع في سرد القصص وماهر في السياسة وعلوم البيانات. واليوم، يدعو وايلي إلى إصلاح «فيسبوك» وليس حذفه، قائلا بأن التواصل مع الآخرين بات مستحيلاً من دون هذه المنصات، ولكن لا بد من وضع ضوابط لها.
- يمكن متابعة «كريستوفر وايلي» في «تويتر» في حسابه @ChrisInSilico
كيف تكتشف حجم ما يخزنه «فيسبوك» عن حياتك؟
- تستطيع معاينة أرشيفك الذي يخزنه «فيسبوك» ويعرفه عنك بتحميل ملفك منه عبر متصفح الإنترنت للكومبيوتر الشخصي، وذلك بالذهاب إلى أيقونة المثلث أعلى صفحة «فيسبوك» والنقر عليها واختيار «الإعدادات» Settings، ومن ثم النقر على رابط «تحميل نسخة من بياناتك في «فيسبوك» Download a copy of your Facebook data، ومن ثم الضغط على زر «البدء بتحميل أرشيفي» Start My Archive وإدخال كلمة السر الخاصة بحسابك في «فيسبوك».
ويجب الانتظار قليلا ريثما ينتهي «فيسبوك» من تجميع بياناتك، وسيخبرك بعد قليل بأن العملية قد تمت. ويجب بعد ذلك الضغط على زر «تحميل الأرشيف» Download Archive لتحصل على نسخة مضغوطة بامتداد Zip من حياتك الرقمية في «فيسبوك» منذ انضمامك إليه.
ويمكن بعد فك ضغط النسخة معاينة كل ملف حدة لاكتشاف تفاصيل حياتك الرقمية التي قد تكون نسيتها، مثل ملفات الصور وعروض الفيديو وجميع الرسائل المتبادلة والفعاليات التي شاركت بها وكل إعلان ضغطت عليه والمنشورات التي أعجبتك والتطبيقات التي حملتها والمناوشات الطريفة مع الآخرين عبر زر «الوخز» Poke وعروض الفيديو والصور التي نشرتها ومنشورات جدارك، وغيرها من التفاصيل الأخرى.


مقالات ذات صلة

بعد 40 سنة... سيدة تكتشتف أن والدها الحقيقي ضمن قائمة أصدقائها على «فيسبوك»

يوميات الشرق تامونا موسيريدزي مع والدها (صورة من حسابها على «فيسبوك»)

بعد 40 سنة... سيدة تكتشتف أن والدها الحقيقي ضمن قائمة أصدقائها على «فيسبوك»

بعد سنوات من البحث عن والديها الحقيقيين، اكتشفت سيدة من جورجيا تدعى تامونا موسيريدزي أن والدها كان ضمن قائمة أصدقائها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»

«الشرق الأوسط» (تبليسي )
العالم رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي (رويترز)

أستراليا تقر قانوناً يحظر وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم أقل من 16 عاماً

أقر البرلمان الأسترالي، اليوم (الجمعة) قانوناً يحظر استخدام الأطفال دون سن الـ16 عاما لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما سيصير قريباً أول قانون من نوعه في العالم.

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
العالم يلزم القانون الجديد شركات التكنولوجيا الكبرى بمنع القاصرين من تسجيل الدخول على منصاتها (رويترز)

أستراليا تحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون 16 عاماً

أقرت أستراليا، اليوم (الخميس)، قانوناً يحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون سن 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
يوميات الشرق يحمل مشروع القانون الأسترالي منصات التواصل الاجتماعي المسؤولية القانونية في حالة فشلها  في منع الأطفال من امتلاك حسابات (أ.ف.ب)

«النواب الأسترالي» يقر مشروع قانون لحظر وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال

أقر مجلس النواب الأسترالي، اليوم، مشروع قانون يحظر على الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 16 عاماً استخدام وسائل التواصل الاجتماعي

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
تكنولوجيا شعار شركة «ميتا» يظهر على شاشة جوّال (أ.ف.ب)

المفوضية الأوروبية تغرّم «ميتا» نحو 800 مليون يورو بتهمة تقويض المنافسة

أعلنت المفوضية الأوروبية، الخميس، أنها فرضت غرامة قدرها 798 مليون يورو على شركة «ميتا» لانتهاكها قواعد المنافسة.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».