مطلع الأسبوع الماضي، اهتزت دعائم الحزب الحاكم في فنزويلا عندما أعلن مكتب النائب العام اعتقال وزير النفط والنائب السابق لرئيس الجمهورية، طارق العيسمي، الذي كان، لأشهر قليلة خَلَت، من أعضاء الدائرة الضيّقة التي تحظى بثقة تامة من نيكولاس مادورو. وكان العيسمي قد استقال من منصبه بعد الكشف عن «تورطه» بفضيحة مالية ضخمة يقدّرها الخبراء بما يزيد على 21 مليار دولار، في شركة النفط الرسمية التي كان يشرف على إدارتها بصفته الحكومية.
في الحقيقة، منذ استقالة العيسمي، مطالع الصيف الفائت، كانت التساؤلات تتكاثر حول الأسباب التي حالت دون توجيه أي اتهامات إليه بعد انكشاف فضيحة الفساد التي طالت عدداً من كبار المسؤولين الذين أُحيل بعضهم إلى المحاكمة، في حين كان آخرون قد فرّوا من وجه العدالة، قبل أن تَصدر مذكرات التوقيف بحقهم. لكن، خلال الأسبوع الماضي، على بُعد أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية، المقررة أواخر يوليو (تموز) المقبل، وزّعت النيابة العامة، التي يرأسها طارق صعب، صوراً للعيسمي مقيّداً في ثياب المساجين، يواكبه عدد غفير من رجال الشرطة الملثّمين، وسرعان ما تناقلتها وسائل الإعلام الرسمية بشكل متكرر للدلالة على الأهمية التي يُوليها النظام لهذه الخطوة.
إلى جانب ما سبق، أعلن المدعي العام أيضاً اعتقال وزير الاقتصاد والمال السابق، الذي كان من بين الدائرة الضيّقة المحيطة بمادورو، وسبق أن عيّنه تشافيز رئيساً لصندوق التنمية الذي كان يُودِع فيه فائض المدخول النفطي، قبل أن يتحوّل إلى وكر للفساد، على حد تعبير صعب. وجرى اعتقال رجل أعمال وصفته النيابة العامة بأنه كان وسيطاً للعيسمي في الصفقات المالية غير المشروعة، إضافة إلى 54 متهماً من كبار الموظفين وبعض النواب المقربين من نائب رئيس الجمهورية ووزير النفط السابق.
ويُستفاد من المعلومات والرواية التي روّج لها النظام عن طريق النيابة العامة ووسائل الإعلام التابعة له، بعد أشهر من التكتم والصمت التام، أن دائرة النفوذين السياسي والمالي، التي كانت محيطة بطارق العيسمي، وفي مرمى المعارضة السياسية التي تتهمها بالفساد وتبذير أموال الدولة، قد سقطت نهائياً، وصارت هي أيضاً طريدة الحملة التي قرر مادورو شنّها على الفساد.
عملية التطهير الأعمق منذ وصول تشافيز
لا شك في أن عملية التطهير هذه هي الأعمق والأوسع منذ وصول تشافيز وحزبه إلى السلطة. إلا أنها موجهة أيضاً لإبعاد الشبهات عن مادورو الذي يَعدّ لتجديد ولايته في الانتخابات المقبلة، ولترسيخ نفوذ النائب العام طارق صعب الذي يشكّل منذ فترة «رأس الحربة القانونية» للنظام في وجه المعارضة. فطارق العيسمي لم يُعتقل ولم يُسق إلى المحاكمة لأسباب سياسية أو عقائدية، بل لأنه «أساء استخدام السلطة»، و«أسرف في أعمال الفساد والرشوة» التي كانت من الأسباب الأساسية التي أدّت إلى انهيار الاقتصاد وتدهور الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، مع أن النظام يصرّ على الأسباب الخارجية لهذا الانهيار. وللعلم، إلى جانب الاتهامات التي كانت توجّهها المعارضة للعيسمي، كانت الولايات المتحدة قد أصدرت بحقه عدة مذكرات توقيف بتُهم الرشوة، وتبييض الأموال، وتسهيل الاتجار بالمخدرات.
طيلة 17 سنة، كان طارق العيسمي من السياسيين الأوسع نفوذاً في فنزويلا، والشخصية البارزة في المواقع القيادية. ولقد بدأ الرجل صعوده، إلى جانب هوغو تشافيز، ثم تولّى مراكز مهة في نظام نيكولاس مادورو حتى استقالته، العام الماضي، بعد بدء التحقيقات في فضائح الفساد حول شركة النفط التي كان يشرف عليها من منصبه الوزاري.
في حينه أعلن المدّعي العام طارق صعب أن اعتقال وزير النفط السابق جاء استناداً إلى التهم الموجهة إليه بالمشاركة في فضيحة الفساد المالي التي كشفتها الأجهزة بشركة البترول الرسمية. وأردف صعب: «أظهرت التحقيقات التي أجريناها ضلوع العيسمي المباشر في عمليات الفساد، وهو سيحاكَم بتُهم خيانة الوطن والاستيلاء على المال العام والتباهي بالنفوذ والسلطة». وهذه تُهم خطرة قد تؤدي إلى زجِّه في السجن لفترة ثلاثين سنة، حال ثبوتها. وكان العيسمي قد قدّم استقالته من وزارة النفط ومن قيادة الحزب الاشتراكي الموحّد الحاكم، بعد الإعلان عن بدء التحقيقات القضائية في عمليات بيع النفط الخام عن طريق صفقات بالعملات الإلكترونية المشفّرة.
من طارق العيسمي؟
أبصر طارق العيسمي النور عام 1974 في مدينة فيخيّا، من أعمال مقاطعة مريدا، في كنف عائلة درزية مهاجرة تعيش في كل من جنوب شرقي لبنان (قضاء حاصبيّا)، وجنوب سوريا (محافظة السويداء)، وهو مُجاز في الحقوق، ومتخصص في علم الجرائم. ولقد رافق هوغو تشافيز منذ وصول هذا الأخير إلى الحكم عام 1999 حتى وفاته مصاباً بالسرطان في عام 2013، وكان بين أبرز المرشحين لخلافته قبل مادورو، إذ كان عضواً في مجلس النواب، وتولّى مناصب قيادية عدة؛ منها نائب وزير الأمن القومي، ووزير الداخلية خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكم تشافيز.
ثم إن مادورو هو الذي فتح أمام العيسمي أبواب السلطة العليا عندما عيّنه نائباً له في عام 2017 ، ثم وزيراً للصناعة والإنتاج الوطني في العام التالي، قبل أن يعيّنه وزيراً للنفط في عام 2020. وعندما أصدرت الولايات المتحدة أولى مذكرات التوقيف بحقه في عام 2019، واتهمته بتجارة المخدرات وغسل الأموال، دافع عنه الرئيس الفنزويلي بالقول إن «واشنطن تُلاحقه لأنه يتحدر من أصول عربية». وتابع: «أنا أعرفه جيداً، فهو شجاع، ووطني، وثوري واشتراكي لا غبار عليه».
«هناك من يعدّ أن سقوط العيسمي لم يكن بسبب ضلوعه في فضائح الفساد المالي نتيجة صراعات داخلية على قمة هرم السلطة»
هذا، وكانت الإدارة الأميركية قد اتهمت العيسمي بتسهيل نقل شحنات كبيرة من المخدرات إلى المكسيك والولايات المتحدة، انطلاقاً من قواعد عسكرية جوية وبحرية في فنزويلا، بالتواطؤ مع قيادات عسكرية كانت قد أدرجتها واشنطن أيضاً على قائمة المطلوبين إلى جانب العيسمي الذي وضعت واشنطن جائزة قدرها 10 ملايين دولار لمن يساعد على اعتقاله أو تسليمه. ويومذاك، ردّ العيسمي بنشره إعلاناً مدفوعاً في صحيفة «نيويورك تايمز» قال فيه إن السلطات الأميركية «خدعتها معلومات مضلّلة زوّدتها بها جهات لها مصلحة في منع إصلاح العلاقات بين البلدين»، وأنه عندما تولّى وزارة الداخلية حققت مكافحة المخدرات أفضل النتائج في تاريخها.
الملاحقة أميركياً... و«صراع سلطة» محلياً
غير أن المدّعي العام الفنزويلي صعب ذكر، في تصريحاته التي رافقت اعتقال العيسمي، أن هذا الأخير كان «الرئيس الفعلي للعصابة» التي كانت تدير عمليات الفساد، وأن خمسة من الشهود الذين كانوا ضالعين في تلك العمليات «اعترفوا»، خلال التحقيقات، بأن العيسمي وشركاءه كانوا يرسلون إلى الخارج حقائب محملة عملات وذهباً، بجانب تُهم أخرى. وأضاف صعب، فيما يشبه المرافعة ضد العيسمي: «أنه كان يستغلّ منصبه لتحويل مبالغ ضخمة لشركات وهمية يدّعي أنها متعاقدة مع الدولة»، ويذكّر خصومه في المعارضة بما جاء في الاعترافات التي أدلى بها كبير مهرّبي المخدرات في فنزويلا، وليد مقلّد - وهو أيضاً من أصول لبنانية - إلى السلطات الفنزويلية، ومنها أن العيسمي عندما كان نائباً لوزير الأمن القومي «كان يسهّل نقل شحنات الكوكايين عبر فنزويلا إلى المكسيك والولايات المتحدة».
واقع الأمر أن الذين يعرفون طارق العيسمي جيداً يقولون إنه كان «العدو الأول للمعارضة»، التي تتهمه بالوقوف وراء كل المؤامرات لتفرقتها وملاحقة قياداتها، وأنه يقارب العمل السياسي على أنه معركة حياة أو موت، إذ يتعامل مع خصومه بوصفهم أعداء يجب سحقهم بكل الوسائل المتاحة. ويتبيّن من مراجعة حسابه على «تويتر» كيف كان يهاجم خصومه بشراسة غير معهودة، ويحمل على الصحافيين الذين ينتقدونه.
وهناك من يعدّ أن سقوط العيسمي، الذي انقطعت أخباره وكان متوارياً عن الأنظار منذ استقالته، لم يكن بسبب ضلوعه في فضائح الفساد المالي الذي قوّض دعائم الاقتصاد الفنزويلي - الذي يصرّ النظام على أن انهياره كان بسبب العقوبات والحصار الاقتصادي - بل هو نتيجة صراعات داخلية على قمة هرم السلطة. المعنى أن إطاحته كانت جِزية لا بد من تأديتها أمام ضخامة الفضائح المالية، وربما أيضاً نتيجة صفقة مع الإدارة الأميركية ليست هي الأولى بين واشنطن ومادورو. ويبدو من هذه الصفقة أن المستفيد الأول منها هو المدّعي العام طارق صعب، الذي يتردد في الأوساط الفنزويلية أن الوقت أزف لترسيخ صعوده عندما يجدّد مادورو ولايته في انتخابات الصيف المقبل.
صعب في الواجهة
ثوري منذ شبابه الأول، ومن أشدّ أنصار تشافيز تحمساً.
من مؤسّسي الحزب الاشتراكي الموحّد، ومنظمّ لمهرجانات موسيقى الروك، وتولى حاكمية عدة مقاطعات قبل تعيينه في منصب المدعي العام الأول.
هذا هو طارق صعب، أحد الشخصيات الأكثر إثارة للجدل في قيادة الحزب الذي يسيطر على الحكم في فنزويلا منذ 25 سنة. صعب مُجاز في الحقوق ومتخصص في القانون الجنائي وحقوق الإنسان، وهو يشغل هذا المنصب منذ عام 2017 بعد تعيينه في الجمعية الوطنية التأسيسية التي ابتدعها النظام في عزّ الأزمة السياسية لتحل مكان البرلمان المنتخب عام 2015 بغالبية مطلقة من المعارضة.
منذ ذلك التاريخ كان صعب «الدرع الأمامية» للنظام المكلفة بصدّ الاتهامات الموجّهة إليه بسبب أعمال القمع التي يمارسها ضد المعارضة السياسية وأقطابها، والجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، وكانت موضع إدانات مباشرة وصريحة من المؤسسات الحقوقية الدولية، وفي طليعتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومحكمة العدل الدولية.
وقد بدأ صعب يشقّ طريقه نحو الشهرة السياسية، مطلع عام 1989، عندما قاد حملة الدفاع عن ضحايا المجزرة التي ارتكبتها أجهزة الأمن اثناء قمعها التظاهرات الشعبية، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، وأدى القمع إلى وقوع عدد كبير من الضحايا بين قتلى وجرحى. في تلك الفترة كان صعب يتردد باستمرار على مكاتب تحرير الصحف ووسائل الإعلام المرئية التي كانت تستضيفه في برامجها، حتى أصبح من الشخصيات المألوفة لدى المواطنين.
وُلد طارق صعب في بلدة صغيرة بشرق فنزويلا، لعائلة درزية أيضاً هاجرت من لبنان، والتحق منذ صباه بجماعة الثوار الشهيرة التي كان يقودها دوغلاس برافو، ثم انخرط في عدد من التنظيمات اليسارية المتطرفة، قبل أن ينضمّ إلى الحركة التي أسسها هوغو تشافيز عندما قام بمحاولته الأولى الفاشلة للاستيلاء على السلطة.
إبان عهد تشافيز، كان ولاء صعب للنظام مطلقاً، وأسهم عبر أنشطته ومؤلفاته ومحاضراته في ترسيخ قاعدة النظام الشعبية حتى أطلق عليه تشافيز لقب «شاعر الثورة». ومع مجيء مادورو إلى السلطة استمر في ولائه المطلق للنظام الجديد الذي كافأه بتعيينه في منصب النائب العام الأول، الذي توقّع كثيرون أنه سيضع حداً لطموحاته السياسية؛ لما ينطوي عليه من صعوبات في عز الأزمة السياسية التي كانت البلاد تجتازها. وبالفعل، تعرّض صعب، بعد تعيينه، لسيلٍ من الانتقادات القاسية؛ لجنوحه دائماً نحو تأييد مواقف النظام، واتخاذه قرارات تخدم مصالحه وتُقصي رموز المعارضة وقياداتها عن فرص الوصول إلى مواقع المسؤولية السياسية.
لكن، بعد أشهر من توليه منصب النائب العام، وفي خضم الاحتجاجات التي عمّت فنزويلا، أعلن ابنه جبران تضامنه مع المتظاهرين الذين كانوا يحتجّون على اغتيال عدد من الطلاب في مواجهات مع الشرطة. ويومها ردّ على موقف ابنه بالقول «إنه موقف يستلهم المبادئ والقيم التي تربّى عليها»، ودعا إلى احترام ذلك الموقف الذي استخدمه خصومه لشن حملة شعواء ضده كادت تؤدي إلى سقوطه.ثم إنه تعرّض أيضاً لانتقادات شديدة من دول عدة، في طليعتها الولايات المتحدة التي اتهمته بتقويض دعائم النظام الديمقراطي، وانحيازه خلال التحقيقات حول تجاوزات الحكومة في مجال حقوق الإنسان. وراهناً، تتهم المعارضة السياسية صعب أيضاً بأنه يقف وراء القرارات التي أدّت إلى إبعاد كثيرين من قياداتها عن البلاد «بتُهم ملفّقة»، أو منع بعضهم من الترشح للانتخابات، كما حصل أخيراً مع ماريّا كورينا ماتشادو، المرشحة التي اختارتها أحزاب المعارضة لمنافسة مادورو في الانتخابات الرئاسية المقررة في يوليو (تموز) المقبل.