بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

مدرس مسلح بمسدس؟

حتى لو حصل مشهد كهذا في غابة تشهد حروب عصابات ضد بعضها بعضاً، فسوف يبدو أقرب للخيال منه لمنطق العقل. حيثما وُجد إنسان، سلاح المعلم هو العلم، ومهمته كمدرس هي إعطاء الدرس، أما اقتراح إلقاء جزء من مسؤولية حماية تلاميذه على كاهليه بأن يُسلح بمسدس، فيبدو ضرباً من تخيّل شطح أبعد مما يجب، رغم مراعاة الظرف الذي أوجب طرح تصوّر كهذا. من الواضح أن الرئيس دونالد ترمب عندما اقترح، بعد مجزرة إحدى مدارس ولاية فلوريدا الأسبوع قبل الماضي، تزويد معلمين في المدارس بالسلاح، إنما أراد الإدلاء بدلوه، كما فعل آخرون غيره من رؤساء أميركا السابقين، في بئر المواجهة مع الرابطة الوطنية للسلاح (NRA)، أقوى جماعات الضغط والنفوذ الأميركية، التي تدافع عن مصالح أصحاب مصانع الأسلحة ومسوّقيها، وقد فشل جميع رؤساء أميركا السابقين في اتخاذ أي إجراء يحد من نفوذها. يتفهم هذا الدافع كل مَن يتابع انعكاسات فوضى بيع السلاح في الولايات المتحدة الأميركية، وما يقع جراءها من ويلات ومآسٍ، يدفع ثمنها أبرياء الناس، صغارهم إلى جانب كبارهم.
بيد أن وضوح مقاصد الرئيس ترمب، لم يحُل دون صياح كثيرين صيحة استغراب إزاء مجرد التفكير في الأمر. هكذا تثمر الديمقراطية. رئيس يقترح وجمهور يستغرب، بل يرفض. ولافت أن يحصل هذا المشهد الأميركي فيما تتجه الصين إلى إلغاء حصر مدة الرئاسة بفترتين، ما سوف يتيح للرئيس شي جينبينغ البقاء في الحكم، ربما، ما بقي حياً. أتبع الرئيس الأميركي اقتراحه بتصريح أكد فيه أن إدارته تنوي اتخاذ إجراءات لتشديد فحص سجلات المقدمين على شراء أي أسلحة. هذا إجراء ضروري، والغريب ألا يكون معمولاً به أساساً. وفي بادرة إنسانية على درجة عالية من إحساس المسؤولية، خصص الرئيس ترمب وقتاً تجاوز الساعة عندما استقبل عدداً من أفراد عائلات ضحايا حوادث إطلاق نار جماعي بمدارس أميركية عدة. استمع ترمب، بكثير من الاهتمام، لآباء وأمهات وأشقاء فقدوا أحباءً لهم خلال تلك الحوادث، ومنهم مَن بدا غاضباً إزاء تقصير الإدارات الأميركية كافة لجهة التصدي لاستمرار ظاهرة القتل العشوائي، سواء في مجمعات التسوق أو فصول المدارس، التي تُعد، بحق، مأساة المآسي داخل أميركا.
ليس من الصعب تسجيل ملاحظات عدة تصب في خانة سلبيات مختلف الإدارات الأميركية، ومنها إدارة الرئيس دونالد ترمب الحالية، والتي سوف تليها، سواء في الشأن الداخلي أو الخارجي. إنما يصعب رمي الممارسة السياسية في أميركا بحجر الديكتاتورية المتسلطة على المجتمع، وغير المعنية بهموم الناس وآلامهم، حتى لو وقع تقصير في مرحلة ما، أو في التعامل مع حالة ما. مع ذلك، من العجب أن تسمع مَن يعد ديمقراطية أميركا «لعبة»، وأعجب من ذلك أن يذهب البعض حد القول إنها «مسرحية»، كل شيء فيها مُعد مسبقاً، ثم إن شخوصها ممثلون رُتب لكل منهم دوره أو دورها مسبقاً. هل من عجبٍ، إذنْ، إذا بنى ذوو ذلك الفهم للديمقراطية في أميركا، على فهمهم ذاك، تصوّرهم أن إلحاق الصين ماحق الهزيمة بالولايات المتحدة هو مسألة وقت؟ كلا، ليس من عجب. إنما يلفت النظر أن بين معتنقي ذلك التصور مثقفين ذوي ثقافة عالية في تخصصاتهم وفي الشأن العام، من شأنها أن تؤهلهم لاحتلال مواقع متقدمة بين نُخب العالم العربي.
مثير للاستغراب، كذلك، أن يعطي بعض إعلاميي أميركا، والغرب عموماً، الاهتمام لأمور تخص الرئيس ترمب كشخص، ويُفترض ألا تعني أحداً آخر غيره. في هذا السياق، بدا المشهد طريفاً في مؤتمر اتحاد المحافظين الأميركيين (ACU) الخميس الماضي عندما استدار الرئيس أمام الجمهور، ثم أشار إلى شعره ليرد على ما يردده بعض أهل الإعلام في بلده وخارجه بشأن مظهره. صحيح أن الشخصية العامة تفقد النصيب الأكبر من خصوصيتها فور تقلد مسؤولية أي منصب. لكن الأمر الخاص، الذي من المفهوم أن يخضع لتمحيص إعلامي، هو المرتبط بإدارة المسؤول للشأن العام، وليس المتعلق بشؤون مظهره أو عائلته. أهم من المظهر أقوال الرئيس، ثم الأفعال. من هنا، بدا طبيعياً أن يُقال للرئيس ترمب إن تسليح معلم المدرسة بمسدس هو آخر ما يجب أن يصدر عن زعيم أقوى دول الكوكب، وزعيمة العالم الحر.