حرارة الثورات مجلبة للأوهام. يتوهم المنتصرون أنهم جاءوا للإقامة إلى الأبد. وأنهم أعطوا البلاد لونها الدائم والأخير. وأن جيلاً بعد جيل سيتولى النفخ في جمر الثورة إذا راوده التعب أو غلبه النعاس. وأنجح الثورات هي تلك التي تنضج إلى درجة الذوبان في دولة تضمن لها على الأقل وداعاً لائقاً. رفض الثورة ثياب الدولة ومنطقها يعني أنها تستدعي ثورة مضادة ستأتي وإن تأخرت. الرفض يعني الإصرار على الذهاب على يد ضربة قاضية مكلفة.
تتصرّف الثورة الإيرانية كأنها لا تشبه أياً من الثورات. وتتوهم أنها لا تخضع لقوانين الثورات والاجتماع. وأنها تستطيع ردّ الهرم عن ملامحها، وردّ الخيبة عمّن وعدتهم بفراديس لم تصل. تعاند الثورة الخمينية رافضة التوقف عند تجارب من التاريخ القريب.
قبل ستة عقود من الثورة الإيرانية، هزت ثورة لينين بدايات القرن. واعتقدت أنها صنعت النموذج المخلص وتستعد لبناء الإنسان الجديد. توهمت أنها ستقيم إلى الأبد، بفضل صرامة الحزب، وهيبة الجيش، وقسوة الأجهزة، وبراعة الآلة الدعائية، والنفوذ الخارجي.
في الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) 1986، عقد المؤتمر السابع والعشرون للحزب الشيوعي السوفياتي. والتفت العالم إلى موسكو، محاولاً استجلاء ملامح الزعيم الجديد. كان المشهد في القاعة الكبرى في الكرملين مهيباً فعلاً. وتأثرت كصحافي شاب بما رأيت.
جلس الأمين العام ميخائيل غورباتشوف في منتصف المنصة. وتوزع حوله من الجهتين قادة دول حلف وارسو والمعسكر الاشتراكي، والدول الدائرة في فلك موسكو. جاء القادة وبينهم فيديل كاسترو لتقديم واجب المبايعة والولاء للقيصر الجديد. وانتشر في القاعة الأمناء العامون للأحزاب الشيوعية، والأحزاب الحليفة، فضلاً عن جنرالات الجيش الأحمر، وجنرالات أوروبا الشرقية، مع أرطال من الأوسمة توزعت على صدورهم.
كان كل شيء يوحي بالقوة. إننا نتحدث عن إمبراطورية مسلحة حتى الأسنان. إمبراطورية تمتلك ترسانة نووية قادرة على تدمير العالم مراتٍ عدة. إمبراطورية تنام على بحر من الصواريخ المصوّبة في كل اتجاه.
وقلت أغتنم المناسبة لأزور قبر لينين المقيم على بعد مئات الأمتار، في الطرف الآخر من الساحة الحمراء. كان صف المنتظرين طويلاً؛ لكن ما لفتني كان محاولة امرأة ستينية متجعّدة الوجه إقناع المنتظرين بأن يشتروا قطعة صابون حملتها في يدها. سارع أحد رجال الشرطة إلى مطالبتها بالابتعاد. وعرفنا لاحقاً أن الشرطة نظمت حملات صارمة لمنع المتسولين من الاقتراب من الساحة، كي لا يستنتج الزوار أن ثورة لينين لم تنجح بعد في إلغاء الفقر. ونظمت الشرطة حملة موازية لمنع المعارضين القلائل من تنظيم احتجاجات مطالبين بفتح نوافذ الحرية، وإنهاء ظاهرة الانتظار المرير في الطوابير الطويلة، على أمل الحصول على السلع المعيشية.
بعد خمس سنوات، لم يجد الاتحاد السوفياتي الذي خسر معركتي الاقتصاد والحرية من يدافع عنه. سقط تحت أعباء انتشار إمبراطوري يفوق قدرة اقتصاده على الاحتمال. قتلته خيبة مواطنيه لا مدافع أعدائه. وفي تلك الأيام تساءل مواطنون: لماذا تنفق مليارات الدولارات لتحصين نظام كاسترو؛ بدلاً من إطعام المواطنين السوفيات؟ وردد كثيرون في مواسم الغضب: «حديد المدافع والصواريخ لا يشبعنا».
درس آخر. في السنة التي لفظت البارحة أنفاسها، وقف الزعيم الصيني شي جينبينغ على أكثر من منبر، مردداً أن الإصلاحات في بلاده أخرجت من دائرة الفقر سبعمائة مليون صيني. ولأنها نجحت في الداخل في إرساء آلية استقرار وازدهار، ها هي الصين تتقدم على طريق الحرير وتطالب بموقع أفضل في نادي الكبار. لم يستطع حسن روحاني إلقاء خطاب مماثل، ذلك أن جهود بلاده انصبت على فتح الطريق إلى البحر المتوسط غرب سوريا، وهو معبّد بالألغام على المستوى البعيد.
كانت إيران تأمل في أن تكون السنة الجديدة سنة تكريس الانتصارات التي حققتها في السنوات الماضية. نفوذها في بغداد بلغ حدّ الإدارة التفصيلية للشأن العراقي. دورها في عملية «التأديب» التي تعرض لها الأكراد شديد الوضوح. ويمكنها الحديث أيضاً عن إنجاز في سوريا. لم يعد موضوع مصير الرئيس بشار الأسد مطروحاً جدّياً في أي مفاوضات جدية. قام اللاعب الروسي بتأديب المعارضة السورية قبل قيامه مع آخرين بقصم ظهر «داعش». تراهن إيران أيضاً أن «حزب الله» اللبناني وحلفاءه سيتمكنون من حصد أكثرية نيابية في الانتخابات المقررة في مايو (أيار) المقبل، وهو ما سيعطي غطاء لإقامة لبنان في «الهلال الإيراني». وفي اليمن، تراهن إيران على استمرار الحرب، ومتابعة استخدام الحوثيين وسيلة لما تعتبره استنزافاً للسعودية، أو محاولة لتطويقها.
لم تبخل السلطات الإيرانية في الترويج لهذه الانتصارات. شاهد الإيرانيون الجنرال قاسم سليماني مع المقاتلين في سوريا والعراق، وشاهدوه يبتسم بعد «تأمين» الحدود العراقية – السورية، وضمان حرية القوافل في الوصول إلى مياه المتوسط اللبنانية.
كل تلك المشاهد بما فيها صور الحوثيين يطلقون صواريخ إيرانية في اتجاه السعودية، لم تستطع إلغاء استحقاقات الداخل وخيبة الناس.
تعب الإيرانيون، أو على الأقل قسم كبير منهم، من صعوبات العيش: نقص الخدمات، وارتفاع التضخم، ومعدلات البطالة، واستنزاف الوقت في صراعات مبرمجة أحياناً بين متشددين وإصلاحيين. تعبوا من ديمقراطية مبرمجة بإحكام تحت عباءة المرشد. تعبوا أيضاً من عدم لمس الثمار التي وُعدوا بها بعد توقيع الاتفاق النووي. أعاد دونالد ترمب طرح نواقص الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي، واضعاً الأوروبيين في موقف حرج. وهذا يعني أن تدفق الاستثمارات لن يحصل كما كان متوقعاً، وهو ما يحتاجه الاقتصاد الإيراني بشدة.
وعكست بعض الشعارات التي أطلقت في الأيام القليلة الماضية أن الإيرانيين، أو قسماً منهم، تعبوا من الانخراط الإيراني المتزايد في نزاعات المنطقة. لهذا جاهروا بمعارضتهم إنفاق أموال الشعب الإيراني على الميليشيات التي تنوب عن إيران في البؤر المشتعلة في المنطقة. ثم إن الإيراني العادي يستطيع اليوم أن يلاحظ أن سلطات بلاده مشتبكة عملياً مع معظم أهل المنطقة، وأن تدخلاتها في الإقليم تؤسس لحروب لا تنتهي، فضلاً عن افتقادها إلى لغة مقبولة تخاطب بها المجتمع الدولي.
من المبكر معرفة المدى الذي ستبلغه الاحتجاجات الحالية. وليس ثمة شك في أن النظام لن يتردد في استخدام العنف الذي استخدمه في قمع «الثورة الخضراء» في 2009، إذا رأى فيها تهديداً لركائز وجوده. لكن الأكيد هو أن الاحتجاجات هي رسائل شعبية شديدة الوضوح، ومفادها أن «مغامرات» الخارج لا يمكن أن تغطي خيبات الداخل، وأن «حديد الصواريخ لا يشبعنا».
8:2 دقيقه
TT
«حديد الصواريخ لا يشبعنا»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة