TT

الوثن في معبد الموت

الوثن يُصنع من مواد غير مرئية في زمن خاص. الوهم قوة تُقدُّ من منجمِ التيه النفسي الشخصي والاجتماعي. المرء المهمّش المحبط يُقادُ بجرعة مركزة من ترياق الوهم المركز. يُساق إلى هدف أسطوري. (أنت ستغير العالم). هذه الكبسولة السحرية التي يضعها - الوثن - في رأس مريديه ويغرسها في ضمائرهم. من يصنع هذا الكائن الرهيب الذي يمتلك القدرة غير العادية لإعادة صناعة البشر؟ (الوثن) البشري، يبدأ بصناعة ذاته في بيئة وظروف خاصة تساهم في توفير التربة والسماد لنبتة شاذة. الأسرة هي الخلية الكيميائية الأولى، ثم الوسط الاجتماعي الصغير والكبير.
الزعيم النازي أدولف هتلر، قيل الكثير عن منبته وعائلته وقريته. هل كان في عروقه قطرات من الدم اليهودي، وكان ذلك دافعاً مركباً لكراهيته لليهود؟ أراد أن يكون رساماً، ولكن لم تُتح له الفرصة لدراسة الفن في الأكاديمية النمساوية للفنون، وحمّل أساتذة يهودا الذنب في إبعاده. قضى الأيام والليالي متشرداً في شوارع فيينا. العلاقة المضطربة بين والديه قبل ذلك. كل ذلك صار أثقالاً حملها في داخله وهو يرحل عبر العمر من سنة إلى أخرى وعبر الأماكن من النمسا إلى ألمانيا إلى خنادق الحرب العالمية الأولى حيث أصيب بالعمى المؤقت. هناك فقصت بذرة الوثن الذاتية. بعد هزيمة ألمانيا تحولت البلاد إلى حقل من البؤس والمهانة. قال الواقع للألمان (ويلٌ للمهزوم).
استسلم جميع الألمان تقريبا لواقع الهزيمة ومات الأمل في النجاة من الغرق في أعماق قاعها. بالغ المنتصرون في التنكيل والإهانة. دُمِّر السلاح الألماني وفرضت العقوبات المالية، اقتُطِعت أجزاء من أراضي ألمانيا. عاش الكثيرون على بقايا القمامة العفنة. من بقي في حناجرهم صوت همسوا: هل إلى منقذ من طريق؟
المنقذ من قاع الكارثة لن يكون من فصيلة البشر. لا بدّ أن يكون ألمانياً نصف إله ونصف أسطورة يعبدها الجميع.
بدأ هتلر بتشكيل حلقة من المريدين. القوميون المتطرفون المؤمنون بعقيدة العظمة الألمانية وجنون الانتقام. هؤلاء هم البناة الأول لجسد (الوثن). أودع هتلر السجن، وُضعت قاعدة الأسطورة. أنجز كتاب «كفاحي» اللبنة الآيديولوجية الروحية. تدافعت الأحداث السياسية واعتلى السلطة، اكتمل مصنع مواد البناء لقامة المقدس. مع بداية الانتصارات العسكرية، اكتمل هيكل الوثن وبدأت تراتيل العبادة. حوَّل هتلر ألمانيا إلى معبد للموت من أجل الوطن، وفي النهاية من أجل الفوهرر. يقتل من يكفر بعظمته ويدفع ببقية الأحياء إلى ميادين القتال والقتل. الموت هو القاعدة التي يقف فوقها الوثن.
جوزيف ستالين بذرة دم في أسرة اختلط فيها الدين بنزق مخمور. أبوه رجل كادح ينفق جلَّ دخله على الخمر. يدخل البيت ليلاً وهو يعربد، ينهال على الطفل جوزيف بالضرب المبرح. أمه المسيحية المتدينة كان حلمها أن ترى ابنها قسيساً في الكنيسة. انضم الشاب إلى مجموعة سياسية يسارية متشددة، شارك في عمليات سطو على البنوك لدعم مجوعته مالياً. سجن أكثر من مرة. انتقل إلى موسكو وشارك في ثورة أكتوبر تحت قيادة لينين. وضع في رأسه مبكراً قرص الزعامة. الولاء المطلق للحزب الشيوعي ولزعيمه لينين. العنف والمؤامرة هما الساقان اللتان ركض بهما نحو محطة الحلم. بعد وفاة لينين قفز ستالين مباشرة إلى قاعدة حلمه (الوثن)، الجماجم هي اللبنات، والدماء هي الماء الذي يعجن به إسمنت البناء. تحويل الاتحاد السوفياتي إلى معبد له، كلف ملايين الرؤوس. سيبيريا هي المعبد المتجمد لتقديم القرابين للوثن. تلك البذرة الجورجية غدت سنبلة لها الملايين من الحبات القاتلة. كل صباح تقدم له قائمة مجهزة للإعدام، يشطب منها بعض الأسماء بشكل عشوائي وتضاف لها أخرى بنفس الطريقة. صوره تملأ كل البلاد، الأغاني والأناشيد الوطنية له وحده. الرصاص لكل من لا يسبح بحمد الإله الذي ألغى الدين. بعد النصر في الحرب العالمية الثانية وتصدر الاتحاد السوفياتي لزعامة العالم بالتقاسم مع أميركا، اكتمل بنيان الوثن الأحمر. الموت كان أيقونات المعبد وبخوره، ستالين هو المعبود الأوحد، الدماء والجماجم والأحياء يسبحون له ويرقصون.
مات الوثن الألماني منتحرا، ورحل الوثن الأحمر مريضا، بقي جسده معبوداً في الميدان الأحمر بموسكو. لكن وثنا آخر رحل عن الحياة وبقيت بلاده معبداً كبيراً له. كيم إيل سونغ الزعيم الكوري الشمالي مؤسس الدولة الشيوعية التي لا تزال تعيش بروح وقواعد الاقتصاد والسياسة التي أرساها.
أول حرب ساخنة بعد نشوب الباردة بين القطبين الجديدين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي كانت على الأرض الكورية، اصطفت الأولى مع كوريا الجنوبية، وحارب الاتحاد السوفياتي إلى جانب الشيوعيين في الشمالية. تدخلت الأمم المتحدة، صارت كوريا كوريتين. نُصِب كيم إيل سونغ زعيماً شيوعياً لكوريا الشمالية في سنة 1953، قاد البلاد في خضم اهتزازات، لكنه في 1958، قاد حملة تطهير شرسة، قتل كل من همس بمعارضته. دشّن بنيان قاعدة الوثن على رؤوس معارضيه. اشتعلت الأناشيد والأغاني التي تنصبه إلها معبوداً من الفقراء والمقهورين. هو الرجل القادم من السماء، تسري في دمه قطرات من الأسرة القديمة المالكة. هو المبجل والمحبوب من كل الشعب الكوري. الأغاني له وحده. أول درس في كل المدارس يبدأ بالشكر والتقديس له وحده. كل شارع ينتصب فيه تمثال له. هو البطل الأسطوري محرر كوريا.
في زيارتي إلى كوريا الشمالية سنة 2002، كان من ضمن البرنامج زيارة قبر كيم إيل سونغ. طابور طويل اصطف أمام مرقد الوثن. تقدم مسؤول المراسم، استقبلتنا سيدة المقام، صالة كبيرة تطل على مرقد الصنم. أرضيتها من رخام أسود به بقع بيضاء، تُسمى صالة الدموع. الجميع يبكي قبل أن يتشرف برؤية الوثن الميت. قبل أن تبدأ السيدة المضيفة بشرح معجزات كيم، تدفقت الدموع من عينيها، سرحت في شرح طويل، وهي تغمض عينيها والدموع تنهمر عن معجزات الزعيم.. وُلد معجزة وحقق معجزات ومات وهو في قمة إعجازه.
بنى كيم إيل سونغ أكبر مترو أنفاق في بيونغ يانغ، ولكنه شيَّد أكبر سجون في تاريخ الدنيا بعد هتلر وستالين. كل من فاح من أنفاسه عدم حبّ الزعيم حكم على نفسه بمغادرة الحياة.
(الوثن). يحيل البلاد إلى معبد تذرف الدموع عبادة له. يقف فوق الجماجم التي تشيد بنيان معبده المنقوش بالعظام، المزين بزخرفة الدم. هؤلاء هم الأوثان الذين امتشقوا صولجان السلطة، لكن أوثان أخرى لم تتوج بالحكم صالت وجالت بصولجان الوهم، لم يعد لها مكان اليوم لكنها كانت وزالت.