هدى الحسيني
صحافية وكاتبة سياسية لبنانية، عملت في صحف ومجلات منها: «الأنوار» في بيروت، و«النهار» العربي والدولي و«الوطن العربي» في باريس ، و«الحوادث» و«الصياد» في لندن . غطت حرب المجاهدين في افغانستان، والثورة الايرانية، والحرب الليبية - التشادية، وعملية الفالاشا في السودان وإثيوبيا، وحرب الخليج الاولى. حاورت الخميني والرئيس الأوغندي عيدي أمين.
TT

تركيا: «اليوم الأسود» كشف عن مخاطر الخصخصة!

إن المسؤولية النهائية لعدم الاستجابة بشكل صحيح لهذا الحادث تقع عليّ شخصيا». هذا ما قالته رئيسة كوريا الجنوبية بارك غوين - هي، دامعة العينين، مكررة اعتذارها لغرق العبارة التي أودت بحياة 300 شخص في سيول، أغلبهم من الطلاب. ولاحقا أمرت بحل جهاز خفر السواحل وتسليم مهامه إلى جهاز بحري آخر.
في المقابل وفي تركيا حيث وقعت كارثة «منجم سوما» كان رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان يتوجه إلى مكان الحادث وكله ثقة بأن وصوله سيدعم مخططه ليوم 10 أغسطس (آب) موعد انتخابات رئاسة الجمهورية، هو يعرف أنه سيفوز لأنه لا بدائل أخرى، لكن ردة فعل الناس عند وصول سيارته، وضربهم على زجاج أبوابها، وركلها، لا بد أنها تشير إلى أنه حتى لو فاز لن يستمر في الحكم بهذه الطريقة وهذه العنجهية المريضة.
يوم الأحد الماضي وعلى موقع صحيفة «الصنداي تلغراف» عرض فيديو قصير يظهر فيه إردوغان وهو يوجه لكمات إلى شاب كان مذهولا من الكارثة، لكنه كان يقف في المكان الخطأ، فرئيس الوزراء أراد الهرب إلى أحد محلات البقالة، بعدما كان وجه اللكمات إلى فتاة صبية صرخت في وجهه قائلة: «ماذا يفعل قاتل أبي هنا؟». وعندما هرب الشاب من أمامه صرخ إردوغان: «إلى أين تهرب أيها الإسرائيلي الغاشم؟».
كارثة المنجم زادت من الأزمة السياسية التي طالت في تركيا. اعتاد إردوغان بعد مظاهرات ساحة «تقسيم»، وبعد فضيحة الفساد، اتهام كل دولة أو مقيم تركي في الخارج بأنه وراء هذه المؤامرة، واعتقد أنه نجح في إقناع نفسه وإقناع نصف تركيا تقريبا بنظرية المؤامرة عندما فاز حزبه في الانتخابات البلدية التي خطط وقاد هو حملتها. لكن من يتهم الآن بأنه وراء كارثة انفجار منجم سوما؟
اعتاد «حزب العدالة والتنمية» أن يفوز في الانتخابات انطلاقا من دمجه القيم الدينية بالنمو الاقتصادي السريع. القيم الدينية لإرضاء «القاعدة» الشعبية من البسطاء، والنمو الاقتصادي لإرضاء طبقة رجال الأعمال المقرب الحزب منها، والتي أوجد عددا كبيرا من أفرادها.
بعد حادثة تعرضه للشاب والفتاة، قال إردوغان: «ما حدث قد حدث، إنها مشيئة الله. إذا علت أصوات استهجان ضد رئيس الوزراء، فسوف توجه لكم الصفعات».
يوم السبت الماضي، تم دفن آخر الضحايا الـ301، إحدى الأمهات وقفت تودع ولديها التوأمين المسجيين في نعش واحد، ولطمت زوجة وجهها لأنها أقنعت زوجها من أجل أطفالهما الأربعة بأن يعمل في المنجم، ويوم موته كان يوم عمله الرابع في المنجم.
فقدت القرية أكثرية شبابها، أعمارهم تراوحت بين 20 و30 سنة. يوم حدوث الانفجار، خففت الحكومة كثيرا من عدد الضحايا، لا، بل انخفض العدد من ستة ضحايا إلى خمسة ثم إلى ثلاثة. اعتمدت على عدد الأحياء الذين أنقذوا، فاستنتجت أن عدد الضحايا قليل. لم تكن تعرف أنه لحظة الانفجار كانت هناك دفعتان من العمال في المنجم.
الناس لم يصدقوا، فأبناؤهم ما زالوا في القعر. في اليوم التالي وكما جرت العادة في الفترة الأخيرة في تركيا، انطلقت مواقع التواصل الاجتماعي وتغيرت الرسائل من كلمات عاطفية وتضامن إلى عناوين «اليوم الأسود»، والدعوة للنزول إلى الشوارع حيث كانت الشرطة بالانتظار، كما جرت العادة أيضا.
أكبر فريق كرة قدم في تركيا «غالاتساري» (غلطة سراي) المعروفة قمصانه باللونين الأصفر والأحمر قال: «اليوم ليس عن الأصفر أو عن الأحمر، اليوم كله عن الأسود».
إردوغان غير مستوعب حجم الكارثة، ولأنه اعتاد السير عكس التيار والفوز، رفض الاعتراف بالحادث ككارثة غير مقبولة، قال إن هذه الحوادث تقع ووقعت، وأعطى مثلا انفجار منجم في القرن التاسع عشر في إنجلترا، مما دفع بمنتقديه إلى تفسير هذا بأنه اعتراف من رئيس الوزراء بأن تركيا في ظل حكوماته متأخرة مائة عام.
وأمام هذه الأخطاء المتسرعة من رئيس الوزراء ارتأت الحكومة تعزية المفجوعين بإطلاق صفة «الشهداء» على الضحايا، وبالفعل تجاوب بعض البسطاء، وتأثروا بطروحات إردوغان وصاروا قدريين: «إذا كانت هذه مشيئة الله، فيجب أن نتقبلها».
قبل ثلاثة أسابيع من وقوع كارثة منجم سوما، قال نائب المنطقة أوزغور أوزيل في البرلمان: «تعبنا من الذهاب إلى مآتم عمال المنجم». ودعا إلى اتخاذ إجراءات تتعلق بشروط السلامة في المنجم. فرد عليه نائب من حزب «العدالة والتنمية»: «بإذن الله، إن شيئا لن يحدث في المنجم، ولا حتى نزف من الأنف». ورفض مجلس النواب مناقشة الموضوع. عمال المنجم كانوا يعرفون بمخاطر المنجم، لكنهم خافوا من عرض هذا على المديرين كي لا يفقدوا وظائفهم.
النقابات العمالية والمعارضة العلمانية التقت على اتهام التسرع في الخصخصة خلال السنوات الأخيرة بأنه السبب في إهمال سجل السلامة في كل البلاد. لتركيا سجل مشكوك فيه بالنسبة لعدد الحوادث في المناجم، مقابل استخراج الأطنان من الفحم الحجري. هناك زيادة في الطلب على الطاقة، والنمو الاقتصادي يتطلب تثبيت الاستقلالية في الحصول على الفحم المستخرج داخليا والمستورد من الخارج، ومن المتوقع أن تتضاعف حاجة البلاد إلى الطاقة في العقد المقبل، وكانت تركيا في السنوات الخمس الماضية زادت من اعتمادها على محطات الكهرباء العاملة على الفحم، منجم سوما انتقل إلى القطاع الخاص عام 2005، وقبل سنتين افتخر صاحبه ألب غوركان بقوله إنه نجح في تخفيض سعر طن الفحم من 130 أو 140 دولارا إلى ما تحت 24 دولارا، وذلك بفضل «الأساليب العملية للقطاع الخاص». اليوم الناجون من الكارثة وصفوا هذه الأساليب بالقاتلة لأنها اعتمدت تخفيض إجراءات السلامة.
قبل أربع سنوات أصدرت «غرفة مهندسي العمار ومصممي البناء» تقريرا عن الخطر المحدق بمنجم سوما، جاء فيه أن المستوى العالي لغاز «الميثان» يجعل المنجم غير قادر على تحمل أي خطأ، وسلط التقرير الضوء على عدم وجود نظام للإنذار عن تسلل الغازات الخطيرة، وعدم وجود منافذ للخروج، وانتقد نظام التهوية، ولفت إلى أن العمال لا يمكن إجلاؤهم على وجه السرعة وبشكل آمن.
منذ عام 2004 أسرعت الحكومة في عملية الخصخصة، ونقلت كل مناجم الفحم إلى مقاولين أو مقاولين فرعيين في القطاع الخاص، وأغلبهم يفتقدون الخبرة. كان من المفروض أن يكون هناك إشراف حكومي، لكن هذا أيضا، وعبر قانون، تم نقله إلى شركات خاصة لم يكن أحد يراقب ما إذا كانت تقوم بواجباتها أم لا.
في سوما فقط وقعت عدة حوادث طوال أشهر العام الماضي. وعند الحديث عن مجال الطاقة، من حيث توزيع شبكات الكهرباء أو منشآت الطاقة فكل شيء يقع تحت سيطرة الحكومة، وفي المناجم تعود السيطرة إلى رجل واحد هو رئيس الحكومة. وكانت وجهت نصائح إلى الحكومة بعدم نقل المناجم إلى رجال أعمال مقاولين أو مقاولين فرعيين لأن أغلبهم لا خبرة لديهم في عالم المناجم، بعضهم جاء من صناعة النسيج، والبعض الآخر من عالم البناء، مع العلم أن وضع المناجم في تركيا مختلف، فهناك نسبة عالية من المياه تحت الأرض الممزوجة بالفحم، ويحتاج إنتاجه بالتالي إلى إجراءات خاصة. وحسب الخبراء فإن أوضاع المناجم في تركيا أسوأ مما هي في الصين؛ إذ ما بين عامي 2000 و2009 وقعت 26 ألف حادثة في المناجم في تركيا أودت بحياة كثيرين.
الكارثتان السابقتان اللتان كان على تركيا استيعاب الدرس منهما، هما: الزلزال الذي وقع في «فان» شرق تركيا عام 2011 وراح ضحيته 604 أشخاص، وكشف الزلزال عن مشكلة سوء البناء، وكيف سمح للمستثمرين بأن يغشوا في المواد التي استعملوها.
وثاني أكبر كارثة وقعت عام 1999 في زلزال «أزمت» غرب تركيا وقتل 17 ألف شخص. بعد كل هذا يطرح في تركيا التساؤل: لماذا قوانين السلامة ضعيفة جدا؟ ومن يتحمل المسؤولية؟
قد تكون كارثة «منجم سوما» نقطة تحول، غضب الناس ليس فقط من الحكومة أو السياسة، هم غاضبون من أشياء لم يتكلموا عنها في البداية والإعلام لم يغطها: سجل السلامة وعدد الناس الذين يموتون في حوادث لها علاقة بالعمل. لتركيا، حسب الخبراء، أسوأ سجل بالنسبة إلى الحوادث المرتبطة بالعمل، وخلال السنوات الخمسين الماضية مات الآلاف من الناس بحوادث عمل، ولم تظهر نوايا جدية من قبل الحكومات المتعاقبة للتعاطي معها.
بعد كارثة سوما، صار الكل يطالب الحكومة بضرورة أن تفرق ما بين عدم حرصها على السلامة وبين «مشيئة الله».