حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

رموزنا التاريخية في معركة التطرف

لفت نظر المستشرقين وهج فكر ابن تيمية المتجدد حتى يخال من يسمع ترداد اسمه من جزر الملوك الإندونيسية شرقاً إلى طنجة غرباً أن هذا الرجل أحد المعاصرين، وقال مستشرق غربي: لك أن تتنقل بين مكتبات العواصم العربية الكبرى، ستجد أعمال ابن تيمية تفرض نفسها على أدراج المكتبات والمراجع الكبرى، ولهذا عقد بعض الأكاديميين الغربيين مقارنة بين ابن تيمية وشخصيات علمية شبيهة له في العالم الغربي تأثيراً وانتشاراً، فوجدوا أن الفارق الجوهري بين ابن تيمية وهؤلاء العلماء المفكرين الغربيين ممن عاصره أو أتى بعده ببضعة قرون هو في اختفاء وهجهم وتلاشي حضورهم بعد وفاتهم بفترة، فأمسى لا يتواصل مع أعمالهم إلا ثلة من المتخصصين.
هذا الوهج الشديد المتجدد لهذه الشخصية العلمية البارزة جذب إليه المهتمين بتأثير فكره وفتاواه وأعماله، ودخل في درجة الاهتمام الشديد حين ورد اسمه مرات عدة في تنظير حركات التطرف والإرهاب كما أشرت في مقالة سابقة، وعوضاً عن توجيه النقد لمنظري هذه الحركات المتشددة الذين ابتسروا نصوص هذا العالم الكبير وانتزعوها من سياقاتها وظروفها، راحوا يشنون عليه هجوماً قاسياً متهمين إياه بأنه ملهم التطرف ومرجع الإرهاب، وهذا ينسحب على عدد من العلماء والمجددين قديماً وحديثاً، فنال الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن باديس والسنوسي وعمر المختار وغيرهم من العلماء وقادة التحرر نصيباً مماثلاً من الهجوم والتشويه، بل لا أبالغ إذا قلت بأن عدداً من الإعلاميين العرب في معرض بحثهم عن الأدبيات القديمة والحديثة التي ينهل منها المتطرفون المعاصرون راحوا يرشقون بنقدهم وهجومهم حتى الأسماء الخالدة التي تعتبر في عرف العرب والمسلمين نجوماً تتفاخر بها مثل قادة الفتوحات الإسلامية كصلاح الدين الأيوبي وعقبة بن نافع وعبد الرحمن الداخل ويوسف بن تاشفين، فلا يرونهم إلا مجرد زعماء حرب يحدوهم كره «الآخر» إلى الاعتداء عليه واحتلال بلاده وسبي نسائه؛ فلا يرون، مثلاً، في صلاح الدين الأيوبي إلا متعطشاً للدماء، ولا العصر العربي الحضاري الزاهر في الأندلس إلا مجرد احتلال قوة عربية استعمارية لبلاد مفككة، مثلها مثل الاستعمار الغربي للدول العربية والإسلامية، فقط لأن قادة «داعش» وحركات التطرف الأخرى عززت في أدبياتها ومراجعها العزو لهؤلاء القادة المؤثرين في تاريخ العرب والمسلمين، والتغني بمآثرهم وإنجازاتهم، أو قلدوهم في بعض تصرفاتهم، فأمسى المشهد باعثاً على السخرية، فبدلاً من الهجوم على المجرمين الذين انتقوا من سير العظماء ما يوافق هواهم وفكرهم المتشدد، راحوا يوجهون سهامهم للعظماء والعلماء والمصلحين وقادة التحرر ورموز التاريخ.
واللافت في هذا الشأن أنك تجد في أدبيات المفكرين والأكاديميين الغربيين لغة منصفة متوازنة تجاه هذه الرموز التاريخية التي تسلط عليها أحفادها، فبعض المثقفين العرب من أحفاد القادة العرب مثلاً يصفون فترة حكم العرب للأندلس بأنها حقبة استعمارية سام العرب فيها الإسبان سوء العذاب؛ يذبحون رجالهم ويسبون نساءهم، وفي الوقت ذاته تجد في أحفاد الإسبان من يرى في حكم العرب لبلدهم حقبة حضارية من أزهى فترات التاريخ الإسباني.
إن الأسلوب العنيف في خلق فصام نكد بين النشء وبين تاريخهم وتشويهه والازدراء برموزهم العلمية والسياسية والحربية التاريخية يساعد بطريقة أو بأخرى في تعزيز أدبيات التطرف والإرهاب بدلاً من محاربته والقضاء عليه.