سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الرجل الذي تأخر في الوصول إلى الصيف: مسألة الزواج

كانت السنة الأولى في الخليج خيراً وبركة. كما كانت شيئاً من حسن الطالع. فقد عرض مالكو الشقة التي يستأجرها الأهل بيعها لهم بسعر معقول، شرط الدفع نقداً. ونقداً دفع ثمن الشقة. وعندما قالت له أمه كيف سوف نشكرك يا ابني، قال لها وكأنه أعد الجواب من العام الماضي: ترضّي عليّ.
وبرضا الأم والأب، كانت السنة التالية من برج الدلو. تدفق عليه المال مع لمعان اسمه كمهندس. ومع بدء مشروعه الجديد، تبين له أن الصيف سوف يكون في «كان». لكن مع حلول الربيع اتصل به الوالد، وأبلغه أن صديقاً يعد مشروعاً معمارياً في عين المريسة: الآن جاء دورك ليكون عندك شقة بدل ما تعيش مثل أهلك في بهدلة الإيجار وظلم أصحاب الملك. وجلس يحسب حساباته، فتبين له أن ثمن الشقة يستغرق عمل عامين. ونسي «كان». وفي العام الثالث، كان لا بد من أن يدشن الشقة الجديدة ويؤثثها ويتكفل انتقال اثنين من أشقائه إلى الجامعة. مبروك. وفي إمكان «كان» أن تنتظر، باقية في محلها ولن تذهب إلى أي مكان.
في الأربعين قال له أحد رفاقه: متى سوف «تعيش يومين مثل الخلق؟». لا زواج، ولا سفر، ولا «ليالي الأنس في فيينا». وشعر بالندم وعقدة الذنب. وتأمل وجهه، فرأى الأربعين تتسرب عبر شعرات بيضاء وإطلالة تجاعيد. لكن هذه السنة لن يستطيع التحرك إلاّ لرؤية والدته التي بدأت الشيخوخة تثقل عليها. وعدا ذلك، فقد ربح مناقصة كبرى، ما إن ينفذها حتى يكون قد حقق جنى العمر، وحقق التقاعد والتعويض وما يزيد. إذن، «كان» الصيف المقبل.
كبرت ثروته وكبر اسمه وزاد احترامه عند أهل الخليج. قال له مساعده العراقي: «عيني الكل يتحشون عنك. أول لبناني سيدا». ولما لم يفهم ما معنى «سيدا»، شرح له أن معناها «عدل». عدل عيني. كلش عدل.
في زيارة قصيرة إلى بيروت للاطمئنان إلى الأهل والتبرك بالترضي، قالت له الوالدة: إذا كنت لا تعرف معنى التقدم بالعمر، أنا أعرف. جميع اللواتي فكرنا بهن زوجة لك، تزوجن وأعيلن. أبوك وأنا نريد أن نفرح بك ونفرح لك. أكرمنا. وشعر بالخجل. إنه لم ينس هذه المسألة لحظة واحدة. ليس من أجله، بل من أجل والديه. عندما لمح دمع أمه، قرر أن هذا العام هو عام الزواج. قبّل يد أمه وسافر. وحين وصول طائرته، وجد سائقه، على غير عادة، عند سلم الطائرة ومعه مجموعة من الموظفين. وانقبض صدره عندما رآهم لا يبتسمون.
عاد على الطائرة نفسها إلى بيروت من أجل جنازة والده.
إلى اللقاء..