نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

العقل والصفاء الذهني

فيما يخص الاقتصاد، فنحن نقضي أغلب أوقاتنا في التفكير في أساليب تحسين مختلف نشاطاتنا الإنسانية، وهذا هو الغرض الرئيسي من المجادلات التي تدور عن الحد الأدنى للأجور، والرعاية الصحية في العالم، ورفع الضوابط التنظيمية، والضرائب وغيرها من السياسات الاقتصادية المشتركة. لكن علينا أن نتذكر هنا أن حال الناس يمثل أهمية كبيرة أيضاً، إذ إن أفضل السياسات في العالم لن تضمن الرخاء لو أن غالبية الناس يعانون من المرض والجهل.
في القرن العشرين، بات للتربية والصحة العامة معايير عالمية في جميع الدول النامية، مما رفع من قدرات قوة العمل التي يطلق عليها الاقتصاديون بصورة واسعة تعبير «رأس المال البشري». فعمال المصانع الآن بإمكانهم قراءة التعليمات، وعمال المكاتب بات بإمكانهم حساب العائدات والتكاليف، وتحرَر الناس بمختلف فئاتهم الاجتماعية من أوبئة مثل شلل الأطفال والسعال الديكي والسل الرئوي.
لكن في القرن الحادي والعشرين، أصبحت اقتصادات الدول الغنية تعتمد بدرجة أكبر على صناعة المعرفة مثل التكنولوجيا، والخدمات المالية والمشروعات. وحتى خارج نطاق هذه الصناعات، فتقريباً بات يتحتم على جميع العمال معرفة طريقة استخدام برامج الكومبيوتر المكتبية والتعامل مع المواقع الإلكترونية، فقد أصبح الناس مطالبين في هذا العالم الجديد بالتفكير طوال الوقت. ويعني ذلك أن صناع السياسة الأميركية في حاجة إلى البحث عن أفضل السبل لتطوير القدرات العقلية للقوى العاملة. لكن لسوء الحظ، فقد تضافرت عدة عوامل للتأثير على قدرة الأميركيين على التفكير. أكبر تهديد لسلامة العقل البشري يأتي من المخدرات. فالانتشار الوبائي لمسكنات الألم المعتمدة على الأفيون وكذلك الهيروين كلاهما يسهم في تدمير حياة الإنسان ويضر بتكاثره. فهناك علاقة قوية متبادلة بين تناول مشتملات الأفيون والبطالة، ولن يكون من قبيل المبالغة القول إن الفعل الأول يسهم في حدوث الثاني.
المشكلة الثانية التي جرت مناقشتها باستفاضة هي مشكلة تلوث الهواء بعوادم الرصاص. فقد توصل طوفان من الأبحاث إلى أن التعرض خلال فترات الطفولة لعوادم الرصاص يمكن أن يؤدي إلى ضعف التحصيل الأكاديمي لاحقاً. بالإضافة إلى ذلك، فقد أظهرت الأدلة الحديثة أن الأطفال الأميركان أكثر عرضة للرصاص مما يتوقعه غالبية الناس. في الحقيقة، تترك الولايات المتحدة مواطنيها عرضة للتسمم الناتج عن المعادن الثقيلة، مما يتسبب في تراجع لمستويات ذكائهم وقدراتهم على التحكم في النفس.
لكن المخدرات والرصاص ليسا العنصرين الوحيدين اللذين يمنعان الأميركان من التفكير بصفاء. فالفقر سبب آخر، والجميع يعلم أن الولايات المتحدة دولة متفاوتة إلى حد كبير، لكن قلة قليلة هي التي تفكر فيما يتسبب فيه هذا الواقع من ضرر للعقول. فقد أظهر عدد متزايد من الأبحاث أن للفقراء بنية عقلية تختلف عن غيرهم. فالمشكلات العقلية تتسبب في الفقر، لكن الفقر أيضاً يعرض الناس لكثير من العوامل التي تتسبب في الاضطرابات النفسية اللاحقة للإصابة، مثل العنف.
قد يتسبب العنف بصفة عامة في الضرر لعقول الأطفال الأميركان على المدى البعيد. فالولايات المتحدة بها سجل جرائم كبير، سجل أكبر من أن يوجد في دولة غنية، 4.2 جريمة قتل لكل 1000 نسمة، وهو معدل يزيد ثلاث مرات على دول مثل فرنسا والمملكة المتحدة.
عندما تتراكم كل هذه العوامل، فإنها تشكل تهديداً حاداً، ليس لمستوى معيشة الأميركان فحسب، بل أيضاً لمستوى إنتاجية القوة العاملة الأميركية. لذلك ينبغي على صناع القرار والاقتصاديين وغيرهم من المثقفين أن يبدأوا في التفكير في أساليب للحد من كل ما من شأنه تشويش صفاء الذهن الأميركي. ولذلك علينا استنساخ تجارب وسياسات دول مثل هولندا في محاربتها لخطر الهيروين. يجب علينا الشروع في تنفيذ برنامج قومي لتطهير التربة الأميركية من الرصاص. وعلينا أيضاً تنفيذ منظومة شبكة أمان اجتماعي للتخفيف من حدة الضغط العصبي وتخفيف تبعات الفقر. علينا أيضاً تنفيذ استراتيجيات لمساهمة المجتمعات المحلية في أعمال الشرطة للحد من الجريمة، وذلك بإعادة بناء الثقة بين رجال الشرطة والمواطنين. كل تلك الجهود مجتمعة يمكن أن يكون لها مردود إيجابي ضخم على العقل الأميركي.
في القرن العشرين، أنقذتنا الحكومة من المرض والجهل، وفي القرن الحادي والعشرين ينبغي عليها أن تساعدنا على تحقيق الصفاء لعقولنا.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»