سعيد بنسعيد العلوي
كاتب واكاديمي مغربي
TT

الغلو وطن الإرهاب

تحل في المغرب اليوم ذكرى مؤسفة؛ كل السنوات الـ11 التي انصرمت على ميلاد الحزن لم تفلح في إزاحة حدث 3 مايو (أيار) 2003 من الذاكرة الشعبية. في مساء تلك الجمعة المشار إلى تاريخها، اهتزت مدينة الدار البيضاء على وقع انفجارات ضربت، في الآن ذاته، مطعما وفندقا في وسط المدينة، وناديا إسبانيا ومقبرة يهودية، وكانت أعداد القتلى بالعشرات (من مواطنين مغاربة وسياح وأجانب مقيمين بالبلد) بينما كان الجرحى والمصابون بعاهات مستديمة بأعداد مهولة. انضاف المغرب بالحادثة الرهيبة إلى قائمة طويلة من الدول، نذكر منها من البلاد العربية مصر وتونس والمملكة العربية السعودية، ومن الدول الأوروبية فرنسا وبريطانيا، ومن دول جنوب شرقي آسيا الفلبين وإندونيسيا، كما نذكر الولايات المتحدة. ثم إن دولا أخرى عديدة في مناطق متفرقة من العالم، جرى إلحاقها بعد ذلك بقائمة الدول ضحايا الإرهاب.
وفي هذه الأيام العصيبة، ترزح نيجيريا تحت وطأة هجوم إرهابي بشع، وقبل هذا بشهور ليست بالبعيدة تنقل الأخبار حكايات مؤلفة عن الإرهاب وقد كشر عن أنيابه، وهو يمعن في أفعال الاختطاف والتهديد والاغتيال.
عقب كل هذه الأعمال الإجرامية الآثمة تصدر بيانات وتحمل الشبكة تصريحات تعلن عن جهة تعلن مسؤولياتها عن الفعل مع القول إنها قامت بما قامت به من أجل نصرة الإسلام ورفع رايته. وفي كلمة واحدة، صريحة ومباشرة، هنالك دوما إقران الفعل الإرهابي بالدين الإسلامي عند الجماعة التي تقدم على الفعل الإرهابي؛ تختلف أسماء التنظيمات، وقد تنسب نفسها إلى هذه المنطقة أو تلك، وتتباين في المطالب التي تتقدم بها في بعض الأحيان، ولكن المسمى يكون واحدا، والهدف الأبعد يظل ذاته، فهو لا يتبدل.
لا شك أن الإرهاب ظاهرة شمولية من جهة أولى، فنحن لا نكاد نعرف منطقة من مناطق العالم توجد في منجاة من الإرهاب (دعك من المضمون الذي يتضمنه الفعل الإرهابي)، ولا شك أن الظاهرة (في تعقدها وتشابك عناصرها) تستوجب في محاولة فهمها التوسل بأدوات معرفية عديدة، وتقتضي من الناظر فيها أن يأخذ بعين الاعتبار أسبابا نفسية وأخرى اجتماعية، فضلا عن الأسباب السياسية السهل إدراكها في الغالب، وهذا من جهة ثانية. ثم إنه لا اعتبار، من جهة ثالثة، باختلاف الحال في معاناة الإرهاب والاكتواء بنيرانه بيد دول ضعيفة وأخرى تعيش أحوال التفكك والتضعضع وثالثة تعيش حال غياب الدولة كلية، وبين الدول القوية التي تكون الدولة فيها حاضرة مهيمنة ويكون العنف فيها حكرا على السلطة الشرعية، وإنما الإرهاب يكون الكل ضحية له.
ضرب الإرهاب أقوى دول المعمورة في عقر دارها، فأصابها بحالة من العجز والتخبط، مثلما يصيب الدول الأفريقية الواقعة تحت خط الفقر ودولة أخرى من القارة السمراء تعد ضمن الدول الأكثر غنى في العالم (وذاك شأن نيجيريا بلد الصادرات البترولية والثروات المتنوعة). وتساوت في الوقوع تحت طائلة الإرهاب أكثر الدول عراقة في الديمقراطية (بريطانيا، النرويج، إسبانيا، فرنسا..) مع الدول الحديثة عهدا بالحياة الديمقراطية، ومع الأخرى التي لم تلج بعد نادي الحياة الديمقراطية الطبيعية. وعلى كل فليس موضوع الإرهاب (أسبابه، مظاهره، تجلياته) مطلبي في حديثي اليوم، فذاك أمر سبق لي القول فيه وبسط الرأي في جوانبه، بل إن ما يعنيني اليوم (ونحن في المغرب نستعيد ذكرى 3 - 5 - 2003 الحزينة، ووسائل الإعلام السمعية البصرية تنقل لنا أخبار الإرهاب والاختطاف في نيجيريا وفي مناطق غير بعيدة في أفريقيا) هو هذا الإصرار، من قبل الإرهابيين، على الربط بين الإسلام والإرهاب، والتأكيد، مع التلويح بالمفجرات والتهديد بتصفية المختطَفين (وهم في الساعة التي نكتب فيها هذا المقال مئات من الفتيات تلميذات المدارس) على الارتباط بين العمل الإرهابي والدعوة لنصرة الإسلام والانتصار لأهله في هذه البقعة أو تلك من بقاع العالم.
لا يتعلق الأمر، في الأمثلة التي ذكرنا (ومنها المغرب)، بالربط بين الإسلام والإرهاب من قبل خصومه وأعدائه، بل إنه مع الأسف الشديد يتعلق بأناس لا يعلنون انتسابهم إلى ملة الإسلام فحسب، بل إنهم يعدون أنفسهم جنودا لا يتورعون عن تقديم أرواحهم في مقابل ذلك الدفاع.
والتماسا للفهم وابتعادا عن لغة السب والقذف وساقط الكلام، نقول إننا نفترض في أفراد الجماعات التي تقدم على الأفعال الإرهابية (أيا كانت رحابة الصدر التي يتعين علينا أن نتسم بها في هذا الموقف الذي نقفه، فلسنا نجد للفعل نعتا آخر غير الإرهاب) انتسابها إلى ملة الإسلام وإخلاصها، من جهة النظرة التي نصدر عنها. بيد أننا لا نرى البتة ما يستوجب الاعتراض من قبل أفراد تلك الجماعات على القول فيها إنها تحمل الإسلام الذي يكون فيه الدين تطرفا يأخذ من التطرف أقصى حدوده الممكنة، أو لنقل، في عبارة لا يقرها الكل أو هم بالأحرى لا يدركون دلالتها، إنه إسلام الغلو، وليس يملك أفراد هذه الجماعات أن ينكروا أن الغلو في الدين منهي عنه بنص صريح من القرآن الكريم وفي نصوص من صحيح الحديث النبوي.
وإذ أبلغ هذا القدر من القول فإني أضيف موضحا: ليس من الصحيح تماما أن نقول، فنكرر القول إن الإرهاب لا وطن له، وإنما الأصح أن نقول إن للإرهاب وطنا معلوما يسكن فيه ومكانا محددا يجد فيه المستقر والمقام. لهذا الوطن، عندنا، اسم معلوم، هو الغلو.
إذا تقرر أن الغلو هو الوطن الذي يجد فيه الإرهاب المسكن والمستقر، فإن السؤال يغدو عندنا التالي: ما المعنى المقصود بالغلو تحديدا؟ ولماذا كان الدين الإسلامي لا يدين الغلو فقط بل إنه يجرمه أيضا؟ أجدني في هذا المقام أستحضر الشاطبي في كتابه «الاعتصام»، إذ يرى أن الغلو مرفوض من الدين للسبب الأساسي الذي يجعل في الغلو «مضاهاة للشريعة».
وعبارة الشاطبي تعني في بيان ليس بعده بيان أن من يسقط في وهدة الغلو يأتي في واقع الحال بدين جديد غير الدين الذي يقول إنه ينتسب إليه؛ دين ليس من الغريب في شيء أن تتقلص المسافة بينه وبين الإرهاب، فهي لا تعدو الخطوة الواحدة، بل إنه إياها، كما يقول النحاة العرب.