د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

من تداعيات التشرذم

ما نحن فيه اليوم من ضعف ووهن ومستقبل غامض أقرب منه إلى السوداوية... هو في وجه من وجوهه نتاج الاستهانة بجدوى التكتلات لمواجهة المصاعب والأزمات. وكان مبررنا في الاستهانة وانغلاقنا على أنفسنا هو فشل فكرة القومية العربية، الذي في الحقيقة إنما يعبر عن فشل الذين آمنوا بها ولم يعرفوا كيف يجسدونها أكثر من فشل الفكرة ذاتها.
ذلك أن نجاح الأفكار والمشروعات هو رهين أصحابها ومدى قدرتهم على إثبات الجدوى وبث الروح في الأفكار والمشروعات لتتحول إلى نتائج إيجابية ملموسة يُشار إليها بوصفها مستندات قويّة. وهو ما يعني أن النّخب والمجتمعات هي التي تعطي قيمة ووجوداً للأفكار الكبرى وليس العكس.
يبدو لي أن فكرة القوميّة العربية التي أصبحت محلّ تندر واستهزاء لدى كثير من العرب هي بصفتها فكرة نبيلة جداً ومهمة، ولكن تمّ الاشتغال عليها بمستندات عاطفية ثقافية سطحية وأهملت الأبعاد القوية والفعالة القادرة على جمع الجميع حول المصلحة ومقولات العقل.
الخطأ الذي رافق مشروع القومية العربية هو اعتبار المشترك الثقافي جوهر المشروع وهدفه وآلياته، في حين أن هذا العامل مساعد وليس محدداً بدليل أن الاتحاد الأوروبي لم ينهض على لغة مشتركة بقدر الاعتماد على المصلحة والاقتصاد والمصير المشترك.
المشكلة أيضاً أن هذا الفشل لم نقاربه مقاربة موضوعيّة جيدة، تسرعنا في إعلان الفشل العربي العربي وأصبح البديل التسابق حول الرهان على علاقات من خارج الفضاء العربي الإسلامي.
طبعاً جيد التنويع في العلاقات لأننا نعيش في عالم مفتوح، ولكن المشكلة التي حصلت عندنا هي إسقاط الرهان على العلاقات العربية العربية والاكتفاء بغيرها وهو ما أدى بمرور الوقت إلى تآكل العلاقات مع الدول الكبرى؛ لأننا في حالة التشرذم العربي أصبحت دولنا أكثر ضعفاً وتتنفس برئة واحدة.
التاريخ يقول إن الأفكار الكبرى نُدفع إليها دفعاً. نضطر إلى تبنيها لأنها تمثل لنا مصدر إنقاذ. بمعنى أن الضرورة والشعور بالخطر يجعل المجتمعات أكثر جديّة في الدفاع عن أفكارها ومشروعاتها وبالتالي يكون التكتل طريقها للنجاح وللإنقاذ.
وعندما نتأمل واقعنا نجد أن المجتمعات العربية عرفت تهديدات كثيرة كان يمكن أن تكون سبباً مباشراً في التفكير جدياً في التكتل العربي لا في السعي الحثيث نحو ضرب الدول بعضها لبعض وإسقاط الدور الإقليمي من الدول العربية الإقليمية القليلة العدد.
الشرخ كان دائماً سيّد الموقف بدءاً من حرب الخليج الأولى إلى اليوم، حيث إننا مجتمعات ودول لا تأخذ مواقفها بناء على العقل وفي ضوء المستقبل، بل هناك ما يشبه تغليب الانفعال والمزاج والنظر إلى حدود اللحظة وليس أكثر منها أو أبعد منها.
لم نفهم بعد أن الخسارة جماعية عربية والمصلحة عامة، لم نفهم حتى الآن رغم كل الكوارث التي قامت بها الجماعات التكفيريّة وأطاحت بمكاسبنا وصورتنا في العالم والإهدار المالي الاقتصادي الذي تتعرض له دولنا وجعل بعضها يجد حرجاً في تأمين رواتب الموظفين.. كل هذا يؤكد ضرورة التكتل عربياً والالتفاف حول إنقاذ دولنا السائرة في طريق مجهولة.
ويكمن التكتل كما نفهمه في وضع اليد في اليد ومواجهة جماعات القتل والإرهاب بيد واحدة واستراتيجية واحدة لا أن دولة تواجه وأخرى تدعم وثالثة تمول ورابعة توظف، هذه الجماعات معولة على سياسة تقاطع المصالح القصيرة الأمد والمنفعة.
صحيح أن الحرب على الإرهاب عالمية ولكن هي أوروبية من حيث اجتماع دول أوروبا حول الموقف نفسه والهدف نفسه المتمثل في القضاء على هذه المشكلة الخطيرة المهددة للجميع. في مقابل ذلك، فإن معظم الدول العربية لا تمتلك الموقف نفسه ولا الهدف نفسه؛ هناك مجموعة من المواقف المختلفة المتناقضة الموزعة بين الموقف المعادي الرافض والآخر المتعاطف والآخر المتورط والآخر المحايد. وكل هذه المواقف مجتمعة تعني أنّه لا يوجد موقف لأن هذا النوع من المشكلات لا يتطلب إلا موقفاً واحداً لا غير.
كما أن تعدد المواقف هو نتاج غياب الشعور بالمصلحة العربيّة الواحدة وبأن الخطر يهدد الجميع، وهذا في حدّ ذاته يمثل جوهر المشكل، أي أنه هناك سوء تفكير ومقاربة مغلوطة لمشكل خطير جداً يتمثل في الإرهاب.
لا بدّ من توظيف مشكلة الإرهاب للانطلاق في بناء تفكير استراتيجي عربي يُولي لفكرة التكتل الأهمية اللازمة. ومن يوم إلى آخر ومن هزيمة تجنيها «داعش» إلى أخرى، يظهر لنا أن الأمر رهين ترتيب البيت العربي والثقة في فكرة التكتل العربي سياسياً واقتصادياً، إذ وحدها هذه الثقة تقضي على التشرذم ووحدها تبدد حالة الوهن الرّاهنة التي لا تنفع معها حالة الحياد والترقب التي تتبعها بعض الدول.