روس دوثات
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

الغرب وما وراءه

في الوقت الذي كان فيه الرئيس دونالد ترمب يلقي خطاباً في بولندا الأسبوع الماضي عن الغرب، باعتبار أن قيمه وإرثه وحرياته يتهددها الخطر جراء ضعف السيطرة على الحدود وفقدان الثقة بالداخل، كنت أقرأ عن الأيام الأخيرة لإمبراطوريات أوروبية سادت العالم.
ويتناول كتاب لعالم الأنثروبولوجيا والمؤرخ غاري ويلدر الأيام الأخيرة لتفكك الإمبراطوريات الاستعمارية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. يحمل الكتاب عنوان: «عصر الحرية: الزنوجة وتفكيك الاستعمار ومستقبل العالم»، وفي إطاره يقتفي ويلدر أثر اثنين من السياسيين والمفكرين أصحاب البشرة السمراء إيم سيزير من مارتينيك وليوبولد سيدار سنغور من السنغال، اللذين اشتركا في مناهضة الإمبريالية بحماس والرغبة في الاستمرار في وحدة سياسية مع الجمهورية الفرنسية.
ورغم أن مارتينيك الصغيرة تحولت بالفعل إلى جزء يتبع الجمهورية الفرنسية، فإن المشروع الاستعماري في السنغال وأفريقيا ككل تداعى تماماً، ذلك أنه بمجرد انهيار الإمبراطورية الكبرى، بات الانفصال السياسي بين الجانبين حتمياً.
ورغم كل الانتقادات التي اتهمت الرجلين بالخيانة وكراهية الذات والحط من شأنها لما أبدياه من رغبة في الاستمرار كفرنسيين بصورة ما، يرى ويلدر أن الرؤية التي طرحاها كانت في حقيقتها معقدة وحملت بعض التنبؤ بالمستقبل.
كان الرجلان من الناطقين بالفرنسية ممن نالوا تعليماً غربياً وتعمقوا في قراءة التراث الأوروبي وآمنوا بـ«معجزة الحضارة اليونانية» التي جذبت إليها أفلاطون وفيرجيل وباسكال وجوتة. في الوقت ذاته، دعا الرجلان للإيمان بالعبقرية الحضارية لعرقهما وحولا «الزنوجة» من مصطلح مهين إلى فكرة تدعو للاحتفاء بالتميز الثقافي الأفريقي.
وآمن الرجلان بأن جزءاً من التقاليد الغربية والقيم العالمية المرتبطة بالجمهورية الفرنسية والماركسية يمكن استغلاله في خلق مظلة سياسية كبيرة - اتحاد عابر للحدود - يمكن للبشرية في إطاره أن تصبح، حسبما قال سيزير: «أكثر وحدة وتنوعاً وتعدداً وتناغماً».
ومع ذلك، قوبلت هذه الرؤية بالرفض من قبل كل من المستعمر والخاضع للاستعمار. إلا أنه جرى إحياؤها بصورة ما من جانب النخب العالمية بنهاية «الحرب الباردة»، مع حلول الليبرالية الجديدة محل الماركسية وظهور مجموعة مختلفة من المشروعات العابرة للحدود الوطنية - مثل الاتحاد الأوروبية و«باكس أميركانا» - لتحل محل الاتحاد الفرنسي متعدد الثقافات والأعراق الذي تصوره سيزير وسنغور.
ومع ذلك، واجهت المشروعات الجديدة ذات الصعوبات التي جعلت رؤيتهما مستعصية على التنفيذ، والتي تنبع من مسألة أن الاختلافات الحضارية واقع قائم وقوي وأبدي وقادر على نسف الوحدة السياسية التي كانا يأملان في بنائها.
وبالنظر إلى القضايا المثيرة للجدل على الساحة الأوروبية في الفترة الأخيرة، نجد أنه من الصعوبة على اتحاد سياسي التوفيق ما بين التيارات المختلفة في الغرب - ألمانيا وحوض البحر المتوسط أو فرنسا والحلف الأنغلو - ساكسوني. ويزداد الأمر صعوبة عندما يحاول الاتحاد ذاته إدارة مجتمع على درجة بالغة من التنوع الثقافي - مثلما يمكن أن يصبح عليه الحال داخل دول أوروبية تحت وطأة ضغوط الهجرة الجماعية - لدرجة تجعله مفتقراً إلى أرضية مشتركة دينية أو لغوية أو تاريخية. ويصبح الأمر أصعب عندما تكون قراءة النخبة الحاكمة لديك للكوزموبوليتانية سطحية.
ومن هنا، فإن الحركة الارتجاعية الوطنية القوية ضد الكوزموبوليتانية المجسدة في أقوى صورها في ترمب، تعد مكافئاً بصورة ما إلى الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار التي رفضت فكر سنغور وسيزير الوحدوي، باعتباره ساذجاً ولا طائل من ورائه.
بالأمس، طرح قوميون أفارقة رأياً منطقياً يرى أنه ليس بالإمكان بناء حضارة أفريقية إذا ما استمر مركز السلطة السياسية بالنسبة لهم داخل أوروبا.
واليوم، يرى قوميون غربيون، أيضاً على نحو يبدو منطقياً، أن الكثير من العناصر الأوروبية المميزة لن تبقى على قيد الحياة إذا ما اتسمت الدول القومية بالضعف، وتعرضت لموجات هجرة جماعية مستمرة وحلت أفكار أخرى دخيلة محل المسيحية واليهودية، واستمر تعليم وتثقيف النخب الشابة باعتبارهم مواطنين عالميين دون أن يعوا شيئا عن أوطانهم.
وتأتي هذه الحجة القومية في صور عنصرية، لكنها ليست بالضرورة القومية البيضاء التي رصدها نقاد ليبراليون في خطاب ترمب، وإنما من الممكن أن تأتي في صورة من صور الفكر المحافظ الذي يفضل إجراء التبادلات الثقافية بحذر وبناء مجتمعات جديدة ببطء، خشية التأثير سلباً على الاستقرار وفقدان عناصر قيمة لا تعوض.
وعلى هذه الصورة، أؤيد هذا الفكر. ومع هذا، فإنني لا أؤمن بالضرورة أنه سيسود في الحالة الأوروبية. وبالتأكيد لا أرى في ترمب فارساً يحمل لواء هذا الفكر. كما أنني أرى الموجة الحالية من مشاعر القومية الأوروبية ليست سوى فورة نشاط مؤقت، بالنظر إلى الضعف الشديد في مشاعر الإيمان الديني والوطنية والتراجع الحاد في معدلات المواليد.
علاوة على ذلك، فإنني عندما أقرأ عن التوقعات السكانية لأوروبا مقارنة بالشرق الأوسط وأفريقيا أرى أنها تجعل أفكاراً مثل «الهجرة المقيدة» و«التبادل الثقافي الحذر» تبدو محض خيال سينسفها واقع القرن الـ21 عاجلاً أم آجلاً.
ويعيدني ذلك إلى سيزير وسنغور، الرجلين اللذين عشقا تراثهما الأفريقي بشدة، واستوعبا في الوقت ذاته الحضارة الأوروبية أكثر عن غالبية الأوروبيين المتعلمين اليوم.
في الوقت الراهن، يبدو الرجلان وكأنهما داعيتان بعالم لا يجد المستعمر والخاضع للاستعمار أمامها مفراً من إيجاد سبيل للتعايش معاً - ومن يدري ربما يكمن مستقبل الغرب بصورة ما داخل هذه الرؤية على نحو غير متوقع على الإطلاق.

*خدمة «نيويورك تايمز»