إميل أمين
كاتب مصري
TT

بيان القاهرة وحديث العقلانية

يستحق بيان القاهرة لوزراء خارجية الدول الأربع التي تنادي بمكافحة الإرهاب، وصفه بأنه بيان مثير وكاشف لإشكالية العمل السياسي وتقاطعاته مع الفهم الشعبوي لدور الدولة في القرن الحادي والعشرين.
دافع تلك الكلمات يتصل بما رآه البعض ضرباً من ضروب الإحباط التي سادت قطاعاً واسعاً من جماهير الدول الأربع؛ بسبب سقف ما جاء به البيان العقلاني، وفي مواجهة الغوغاء الذكية المرتبطة بوسائط الميديا الاجتماعية الجديدة.
يتفهم المرء بصدق ووضوح كيف أن الغضب الشعبوي والنخبوي العربي والخليجي قد بلغ الحلقوم، من جراء التمادي في العماية وضروب الغواية القطرية؛ ولهذا خيل للكثيرين أن ردات الفعل على رفض قطر المطالب الثلاثة عشر سوف تأتي قاسية دفعة واحدة لتزلزل الأرض من تحت أقدام القيادة القطرية.
على أن البيان لفّته العقلانية الفاعلة وغلّفته الموضوعية الناضجة، وبعيداً عن العواطف المتأججة والرؤوس والأدمغة الساخنة غير القادرة على الفرز والتمييز.
بيان القاهرة وتصريحات وزراء خارجية الدول الأربع أكد المواقف الأساسية من الدوحة المعاندة والمكابرة ودون أدنى عنتريات، بل ترك الحبل طويلاً وممتداً لقطر لتلفه من حول رقبتها إن شاءت، أو ترتدع إن أرادت.
حكماً، انتظر ولاة الأمر في قطر بياناً نارياً يبرق ويرعد متجاوزاً كل حدود القوانين الدولية والمعاهدات الأممية، وساعتها كان يمكن لقطر أن تصدع العالم بعدائية وربما وحشية الأشقاء، واجدة بذلك الذرائع والمبررات للمزيد من عسكرة المشهد، واستجلاب القوات الأجنبية.
حزمة مبادئ بيان القاهرة - لو عرفت قطر - يجعلها تقلق بأكثر مما لو أنذر البيان وحذر؛ ذلك أنه ساعتها كانت ستدرك وبسهولة ويسر، أي طريق تذهب الدول الأربع، وأي آليات سوف تتبع، وكأنها لعبة د. جيكل ومستر هايد، من جديد.
لكن الهدوء والقدرة على «كظم الغيظ» والاستعانة على قضاء الحوائج بالكتمان، يبقى من مهارات الكبار، وهو الأمر الذي لا يستطيع الصغار إدراكه.
دور السياسيين أن ينظروا للأحداث الكبرى، ذلك أن تاريخ الأمم لا تحدده النوايا الطيبة، وإنما إدراك موضوعي صادق للحقائق الميدانية، وموازين القوى التي تحكم لعبة الأمم.
بيان القاهرة، وحتى تبرد الرؤوس الساخنة التي ذهبت في تأويلاتها وتفسيراتها بعيداً جداً عن حيز الحقيقة، وسبحت في بحار أوهام الانبطاح للآخر، ولا سيما الجانب الأميركي، فاتها أن الدول الكبرى تأخذ قراراتها المصيرية في ضوء رؤى استراتيجية واضحة للذات، وفاضحة للخصم؛ ولهذا لا تنطلق قراءاتها من خلفية الإلهام أو النزوات، وديماغوجية المزايدة على رجل الشارع، بل عبر أهداف لا تحيد عن أعين واضعي استراتيجياتها، ولا سيما أن الاستراتيجيات تعلم دارسيها أن الأهداف يمكن الاقتراب منها عن طريقين؛ اقتراب مباشر، أو اقتراب غير مباشر، مع بقاء الهدف في الحالتين ظاهراً أمام عيون طالبيه، حتى وإن أخذتهم التضاريس إلى الطرق الدائرية.
القائمون على بيان القاهرة أدركوا جيداً أن هناك صدعاً كبيراً أصاب قطر وقيادتها، وهي المعروفة بهشاشة نسيج الحكم فيها، والمشهورة بالتاريخ الطويل للانقلابات وتبادل العرش تحت الضغوط والمكايدات السياسية؛ ولهذا فقد كان الاضطراب والرفض للمطالب الثلاثة عشر هو سيد الموقف، وفي حين تمارس الدول الأربع ضغوطها الاقتصادية والسياسية والإعلامية، على الدوحة يتعمق الشرخ في الداخل القطري شعبوياً ونخبوياً، وفي إطار الزمرة الحاكمة. فمن جهة، فإن رفض تلبية تلك المطالب يجعل صانع القرار هناك يشعر بالتهديد والخوف صباح مساء كل يوم، ومن جهة أخرى، فإن الإذعان للمطالب سيظهر الحاكم في الداخل ضعيفاً، ويضعضع ثقة شعبه فيه محلياً، وفي الحالتين يبقى الخطر محدقاً به، ويبدو المشهد القطري الداخلي مثل كرة الثلج التي تتدحرج من فوق الجبل، لتلاقي مصيرها المحتوم بالانفجار والتفتت عند القاع.
بيان القاهرة - حكماً - كمثل جبل الثلج، قمته طافية وجسمه غاطس في الأعماق، وغني عن القول: إن كل ما يقال همساً في المخادع لا ينادى به من على سطوح المؤتمرات الصحافية؛ ما يعني أن تبعات وتداعيات مؤتمر القاهرة سوف تتجلى في هدوء ودون صخب أو جلبة.
الذين قدر لهم متابعة البيان واستيعابه برؤية محايدة يدركون مهارة دبلوماسية كبيرة في التعاطي مع القوى الدولية الكبرى، وفي المقدمة منها ولا شك الولايات المتحدة، وربما غيرها من العواصم الفاعلة والمؤثرة في العملية السياسية في الشرق الأوسط برمته، فقد أعطى البيان مجالاً واسعاً لهؤلاء الضامنين والساعين لتغيير سلوك قطر، وفي الوقت عينه حمّلهم المسؤولية كاملة، وفي حال التهاون أو التماهي مع علاقات قطر الداعمة للإرهاب طولاً وعرضاً عربياً ودولياً، فإن الكلفة الأدبية والأخلاقية سوف تختصم من الثقة المعطاة ومن التحالفات القائمة والقادمة، ولا سيما مع واشنطن، وهو أمر بات العوام يدركونه قبل أن تفككه الانتلجنسيا.
رهانات الدوحة على «إزار الوساطة وتفكيك النصوص» يذكرنا بما جرى للإمبراطوريات الكبرى التي تولت هزيمة نفسها بنفسها ولم يهزمها خصومها، عبر الإفراط في استعمال القوة والثروة في دروب الغي والغرور... كيف يكون الحال مع «قطر الصغيرة»؟