أخرج زعيم الحركة القومية اليميني المعارض دولت بهشلي قلما من جيبه، وطلب أوراقا بيضاء وأخذ يرسم مثلثات هندسية متداخلة بعضها كبير وبعضها صغير، ويسجل حروفا وأرقاما حول مضلعات الأشكال، يشرح فيها تصوره في اختيار المرشح الرئاسي المشترك ومواصفات هذه الشخصية والخصائص التي ينبغي أن تحملها إذا ما كانت المعارضة التركية تريد حقا توجيه ضربة انتقامية للعدالة والتنمية، الذي لا يعطيها المجال حتى لالتقاط أنفاسها بين هزيمة وأخرى.
حالة بهشلي هي نفس حالة كثير من الدول والأحزاب السياسية في المنطقة التي تعاني هي الأخرى في هذه الآونة من مشكلة إنجاز انتخاباتها البرلمانية أو الرئاسية وقياداتها لا تتخلى عن الورقة والقلم، والعودة إلى الجبر والجيومتري تجمع وتطرح وتضرب وتقسم علّها تصل إلى ما تريد، وطبعا آخر همها هو ما يقوله الشارع الذي تمثله.
لكن ورطة المعارضة التركية هي أهم وأكبر من ذلك. هي تعتاش على ما يرتكبه رجب طيب إردوغان من أخطاء وما يقدمه لها الإعلام اليومي من فرص وما تنصح به جماعة فتح الله غولن. هي تريد هندسة السياسة في تركيا، لكن ما تملكه من أدوات وإمكانات لا يسمح لها بذلك.
هي تبحث عن المرشح المشترك الذي يمثلها في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة ما دام أن قوتها وحجم تمثيلها لا تعطيها أي فرصة أخرى، لكنها تعرف أن مهمتها شبه مستحيلة في إخراج مارد الفانوس الذي يقول «شبيك لبيك مرشحك بين يديك».
أزمة المعارضة هي أنها وقعت في المصيدة التي تتهم الحكم بحفرها يوميا من خلال محاصرة تركيا بالقضاء والقدر الحزبي والسياسي الثنائي عبد الله غل - رجب طيب إردوغان. ها هي تلجأ لتبني الأسلوب نفسه من الاستقطاب السياسي الذي تدعيه بحثا عن المرشح الذي يضمن لها إزاحة إردوغان عن عرشه.
هم يحاولون اجتراح المعجزات عبر دمج الآيديولوجيات والشعارات السياسية وتجاهل كل ما يفرقهم ويباعدهم وتوحيد الجهود في المطبخ السياسي التركي علهم يخرجون بطبخة سارع إردوغان لتخييب أملهم فيها قبل أن تستوي «لن تكون أكثر من طبخة بحص».
البعض يقول إن بهشلي الذي رفض فكرة المرشح المشترك تخلى عن عناده ليس لفك ضيق المعارضة، بل في محاولة لفرض المرشح الرئاسي الذي يريده هو على «الشعب الجمهوري».
لنفترض أن المعارضة القومية اليسارية الكردية العلوية اتفقت على المرشح المشترك وقطعت الطريق على إردوغان وأوصلت الشخصية التي تريدها إلى قصر الرئاسة فما الذي سيقدمه لها هذا الشخص، وهي تعرف أن أمامها استحقاقا انتخابيا آخر يفرض عليها تقديم تنازلات متبادلة لا تنتهي لبعضها البعض ولكل من يدعمها من لوبيات وقوى دينية واقتصادية وإعلامية. ذهنية الميكرو التي تبني عليها المعارضة حساباتها هي التي تردها إلى الوراء أكثر فأكثر ولا خيار آخر أمامها سوى تبني استراتيجيات الماكرو في تفكيرها وطريقة عملها ومواجهتها لإردوغان وغير ذلك لن ينفع.
مثلثات بهشلي وحساباته على الورق هي غير ما يكنه في سره. هو ربما يدعم وصول إردوغان إلى قصر الرئاسة لتحييده وتقييده بالتزامات الدستور والصلاحيات المعطاة لرئيس الجمهورية. لكن ما يتجاهله بهشلي والكثير من قيادات المعارضة أيضا أن أمامهم أقل من 3 أشهر على الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة وأن مرشح العدالة والتنمية شبه معروف رغم أنه لا يريد إعلانه رسميا واستطلاعات الرأي تقول إن احتمال فوزه من الجولة الأولى وارد وهو مرتبط مباشرة بما ستفعله المعارضة . لكن كل ما تقوله المعارضة منذ انتهاء الانتخابات المحلية وحتى اليوم يصب في خانة إردوغان ويزيد من قوته وشعبيته وعدد أصواته.
المعارضة تنسى أيضا أنه بعد الخروج من الانتخابات الرئاسية ينتظرها وخلال 6 أشهر لا أكثر امتحان آخر أصعب هذه المرة هو معركة الانتخابات البرلمانية التي يريدها إردوغان حاسمة لتساعده على الانتقال بتركيا إلى النظام الرئاسي، فهناك برامج ومشاريع وقرارات سياسية ودستورية كثيرة تنتظر ومنها ملف المسألة الكردية ومصير أوجلان والملف الأرمني الذي سبقه التعزية بالضحايا الأرمن والأزمة القبرصية التي تراوح في مكانها منذ عقود وتحبس تركيا بين شرقي المتوسط وإيجه وملف العلاقات التركية الإسرائيلية الذي ينتظر أكثر من المصالحة والتطبيع، العودة إلى التحالف الاستراتيجي بعدما زاد حجم التهديدات والضغوطات على البلدين نتيجة ملء دمشق وطهران وموسكو في الأعوام الأخيرة لهذا الفراغ، الذي تسببت به «ون ميونيت» وحادثة أسطول مرمرة.
بهشلي يرى أن نصف الناخبين لن يصوتوا للعدالة والتنمية، لذلك يحاول بناء الجبهة الائتلافية العريضة وهو يريد في أسوأ الأحوال إبقاء إردوغان إلى الجولة الثانية من الانتخابات لإثبات قدرات المعارضة، وتذكير إردوغان أنه لن يكون أبدا وحده في الساحة. لكن أزمة المعارضة التركية أنها تأتي من البعيد ومتناحرة جدا ولم تتعلم من الأخطاء التي ارتكبتها بعد وقصتها تنطبق على قصة المفكر الألماني مارتن نيام أوللر، التي ذكرنا بها الأكاديمي التركي حسين يايمان ناقلا عنه: «حين اعتقلوا الشيوعيين لم أعترض، لأني لم أكن شيوعيا. ثم اعتقلوا الاشتراكيين فلم أعترض أيضا لأني لست اشتراكيا. وبعدها اعتقلوا النقابيين فتجاهلت القضية فأنا لست منهم. ثم جاء دوري فأتوا ليأخذوني هذه المرة. تلفت من حولي فلم أجد أحدا يتحرك للدفاع عني، لأنه لم يبق أحد ليعترض». المعارضة التركية اليسارية واليمينية تجاهلت تاريخيا ما فعلته قيادات في المؤسسة العسكرية، وأدارت وجهها حيال الانقلابات الكثيرة في البلاد، ولم تتحرك عندما استهدفت القوى العلمانية الإسلاميين، واليوم عندما جاء دورها تصرخ من حفرتها ألا ينتشلنا أحد؟
حزب كمال كيليش دار أوغلو وعلى الرغم من ضيق الوقت المتبقي دخل في حرب الإقالة والإبعاد والتهميش، التي عززت من سيناريو الانشقاقات واقتراب موعد الإعلان عن الحزب اليساري الجديد الذي تحدثنا عنه قبل أسابيع وهو عبارة عن «تفاهم» اليساري العلماني مصطفى صاري غل مرشح إسطنبول، واليميني المحافظ منصور يواش مرشح أنقرة، على الخروج بسيناريو الدم الجديد لإنقاذ المعارضة اليسارية. والحركة القومية رفضت اقتراح المرشح المشترك الذي اقترحه كيليش دار أوغلو، لكنها بعد أقل من شهر بدلت رأيها وقبلت بفكرة «المرشح المظلة» القادر على جمع أطياف المعارضة وتوحيدها. مشكلة بهشلي أنه لا يجيب عن استفسار هل هم الذين يتوحدون وراء المرشح أم أن المرشح هو الذي يوحدهم من ورائه وهي معادلة تختلف حساباتها ونتائجها في السياسة.
أين هو هذا المرشح الذي ستسلمه المعارضة 46 في المائة من الأصوات المضمونة وتعده بالحصول على المتبقي أثناء الحملات الانتخابية التي ستوحد العلمانيين واليساريين والقوميين وإسلاميي جماعة غولن تحت سقف واحد هدفهم التخلص من إردوغان؟
مشكلة بهشلي وبالتالي مشكلة المعارضة التركية وهي تحاول صناعة المرشح المشترك لن تختلف كثيرا عن مشكلة الفتاة الصغيرة التي احتارت في اختيار الألبسة والتسريحة المناسبة لدميتها فحولتها إلى أعجوبة وأجلستها في حضنها.
8:32 دقيقه
TT
مثلثات بهشلي.. معارضة تبحث عن مرشح
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة