د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

عندما يتنكر الإرهاب في شكل جمعيات خيرية

يكمن دهاء الإرهابيين وأصحاب آيديولوجيا الإرهاب، إن جاز الوصف، في أنهم يسوّقون مشروعهم الإرهابي تحت غطاء أفكار وقيم ومفاهيم جذابة ومغرية ومؤثرة تتخذ من العمل الخيري، ومن مهمة استعادة المجد الديني، مسوغات وشعارات يقصد بها التمويه وتبييض الإرهاب.
وفي الحقيقة، فإن المشكل ليس بسيطاً عندما يرتبط بتوريط أهم فضاءات المجتمع المدني، ونعني بذلك الجمعيات، في فخ الإرهاب، وذلك من خلال توظيف الجمعيات التي تعرف بكونها فضاءات لتجسيد ثقافة الحرية والدفاع عنها.
ويمكن القول، إنه في السنوات الأخيرة بدأت الأفكار الهدامة في الاتجاهات المختلفة الراديكالية تتسرب إلى مجتمعاتنا عن طريق المجتمع المدني، أي تكوين جمعيات تنشط في مجال اختصاص الجمعية، ويتم تمويلها ودعمها من المستفيدين من رواج تلك البضاعة الفكرية الهدامة.
ما مناسبة هذا الحديث؟
في الحقيقة الأسباب كثيرة، والدواعي أكثر من أن تحصى أو تعد. من ذلك مثلاً قرار رئاسة الحكومة في تونس حل 20 جمعية خيرية تونسية وتجميد أنشطتها؛ وذلك بسبب حصولها على ما تم وصفه بتمويلات مشبوهة، وتمتعها في السنوات الماضية بتمويلات صادرة عن جهات تركية، سواء رسمية أم منظمات مدنية.
وفي منتصف هذا الشهر الحالي كانت صدرت أخبار تقول إن قرابة 60 جمعية تونسية ثبت ارتباطها عضوياً بمنظمات وأشخاص تم وضعهم في قوائم الإرهاب الصادرة عن مصر والسعودية. وورد في أخبار تفصيلية أكثر، أن هذه الجمعيات هي في الظاهر جمعيات خيرية، وفي حقيقتها تقوم بتمويل ودعم الإرهاب، حيث قامت بتأمين دور شبكات تسفير الشباب إلى بؤر التوتر إضافة إلى تقديم مساعدات لعائلات الإرهابيين.
إذن، نلاحظ استثمار الإرهاب للمجال العمومي وللعمل الجمعيات في تسويق أفكار الموت، وتجنيد المستعدين له، أو لنقل بتعبير أدق: ضحاياه.
إن حدوث مثل هذه الاختراقات تمثل نقيصة في حق المجتمع المدني، فكما هو معروف يراهن كل العالم اليوم على دور المجتمع المدني في ترسيخ القيم والبناء، وفي إعطاء الجميع الفرصة للتعبير والنشاط في كنف القانون واحترام الغير. لذلك؛ فمثل هذه الانحرافات في صلب المجتمع المدني والفضاء المدني الذي من مهامه الترويج للقيم المدنية تؤثر على العلاقة بعالم الجمعيات وتجعل الدور الجمعياتي محاطاً بالريبة، وأيضاً متهماً بالانفصام، بمعنى أن ما تبنيه جمعية من حث على قيم الحياة والحرية والمواطنة تهدمه جمعية أخرى متنكرة في شكل جمعية خيرية من خلال انتداب الشباب للزج به في مناطق التوتر والموت.
ولا يخفى على أحد أن الانزلاق بالجمعيات في لعبة الإرهاب يمثل نكسة على أكثر من صعيد: أولاً، لا يفوتنا أن بلداننا تراهن كثيراً على المجتمع المدني في تغيير العقليات، وفي تعزيز قيم الانفتاح والتصالح الثقافي مع الذات والآخر، ومن الصعب الاستغناء على الجمعيات أو إحكام المراقبة عليها.
ذلك أن ما يسميه عالم الاجتماع برتران بادي دولنة عمل الجمعيات، وجعل يد الدولة ضاغطة على أنفاس المجتمع المدني هو ضد جوهر المجتمع المدني وروحه ودوره وصلاحياته واستحقاقاته. وفي مقابل ذلك، فإن الدولة مجبرة على المراقبة واليقظة؛ لأن الأمر ينطوي على مساس بالأمن القومي لبلداننا وخرق صريح واعتداء على شبابنا. وكما نعلم، فإن مسك العصا من الوسط ليست بالكفاءة السهلة لدى نخبنا السياسية الحاكمة التي ما إن تستشعر الخطر حتى تلوذ بالممارسة الديكتاتورية للحماية والأمن.
وبشكل عام، رأينا كيف أن العلاقة بين الإرهاب وتراجع الحريات عضوية وآلية، وهو ما يؤكد لنا أن اختراق الأطراف ذات الأجندات التي توظف الإرهاب الفضاء الجمعياتي في مجتمعاتنا إنما الهدف منه، علاوة على تلبية أهداف الأجندات الخارجية، هو تقويض المسار الديمقراطي الجنيني لشعوبنا والتشويش عليه؛ كي يتراجع ويعرف الإرباك وهو في مرحلة الهشاشة.
فالأمر يحتاج إلى انتباه مخصوص، وإلى عقد مؤتمر دولي حول الإرهاب والعمل الجمعياتي، وتحميل الدول الداعمة مسؤوليتها أمام العالم؛ لأنه من خلال تمويل هذه الجمعيات يتم الاعتداء السافر على ديننا وثقافتنا وحياتنا وأمننا واستقرارنا. كما نحتاج إلى تشديد الرقابة والمراقبة على المداخيل المالية للجمعيات ومصادرها.
إن مجتمعاتنا المدنية اليوم تأخذ المال من العالم الغربي ومؤسساته ودوله الحريصة على نشر ثقافة الديمقراطية والحريات، وتريد أن تفهم النسق الثقافي العربي الإسلامي، وأيضاً تأخذ البعض من الجمعيات المتنكرة تحت اسم الخير والعمل الخيري المال من أطراف سرية مصلحتها كما تبدو لها في دعم الفكر الإرهابي، وذلك دون أن تظهر في الصورة.
فالمال في المجتمع المدني يقوم بتنشيط الأفكار وترويجها وبيعها: أفكار تشبه الشجرة الطيبة، وأفكار أخرى سموم قاتلة.