إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

نظرة للبيع

«هذه النظرة ليست لأحد سواك». هذا ما خطّته إديت بياف على صورة لها أهدتها إلى إيف مونتان ووقّعتها بعبارة: «بوبوس التي تحبك». وتبدو المغنية الفرنسية الشهيرة، في الصورة، جالسة على أرض المطبخ، مرتدية صدرية ربة البيت. هل كانت تعرف، يوم كتبت تلك الكلمات قبل 70 عاماً، أن صورتها ستباع بثمن بخس في مزاد علني؟ يمكن لمن يحمل في جيبه 50 يورو أن يزايد عليها ويفوز بها.
جاء إيفو ليفي إلى مرسيليا مهاجراً من توسكانيا في إيطاليا. كان أبوه عاملاً وناشطاً سياسياً نجا بنفسه وبأطفاله بعد تنامي الفاشية، قبل وصول موسوليني إلى الحكم. وفي فرنسا عرف إيفو الضنك قبل أن يصبح مغنياً وممثلاً من الصف الأول. صعد إلى باريس وتخلص من اسمه الإيطالي ولكنته الجنوبية وصار اسمه إيف مونتان. كان يقدم وصلات فكاهية لتسلية الجمهور قبل ظهور الفنانين المعروفين على المسرح. المهنة: إحماء القاعة. وتصادف أن قام بمهمته في حفل لإديت بياف. وقعت عليه عيناها وراق لها. ومن تُعجب به بياف يكون مولوداً تحت نجمة سعد. لقد أحبت مجهولين من أمثال شارل أزنافور وجورج موستاكي وتيو سارابو وصنعت منهم أسماء لامعة. وهي التي منحت مونتان دوره الأول في السينما، وكانت هي بطلة الفيلم. تلك كانت البداية التي شقّ بعدها طريقه إلى البطولة حتى عرفه الجمهور العربي الواسع مع فيلم «زد» لليوناني كوستا غافراس.
في قصر دروو في باريس، تباع غداً صورة بياف المهداة إلى مونتان. ويعرف خبراء المزادات العلنية أن أكثرها اجتذاباً للجمهور الرومانسي هي المخصصة لمخلفات المشاهير والنجوم. لقد بيعت، من قبل، فساتين مغنية الأوبرا ماريا كالاس، ومعاطف غريس أميرة موناكو، ومجوهرات دوقة وندسور التي تخلى ملك بريطانيا عن عرشه في سبيلها. والآن جاء دور إيف مونتان وزوجته الممثلة الكبيرة سيمون سينيوريه. إن مزاد الغد مخصص لمخلفاتهما. أثاث وصور ورسائل وثياب ومجوهرات جاءت من المنزل الريفي للثنائي النادر في مجال مثل الفن. كان مونتان وسيماً وغاوياً تعشقه النساء، حافظ على لياقته بينما شاخت سيمون وتثاقلت خطواتها، تقرأ عن مغامراته في الصحف وتُبقي رأسها مرفوعاً. كيف كان لها ألا تشعر بالغيرة وهي ترى زوجها في أحضان مارلين مونرو، قطعة المغناطيس الشقراء التي ارتبطت معه بحكاية قصيرة. تعارفا على طاولة عشاء في هوليوود، ولم يكونا وحيدين. كانت سيمون سينيوريه حاضرة معهما وكذلك الكاتب آرثر ميلر، زوج مارلين. ومع هذا اتقّدت الشرارة. كانت النجمة الأميركية تستعد لدور جديد في فيلم «الملياردير»، عام 1960، وفي اليوم التالي عرض المخرج على مارلين أسماء الممثلين المرشحين لمشاركتها بطولة فيلم «الملياردير». رفضت غريغوري بك وفريد آستير وروك هادسون وقالت إنها اختارت إيف مونتان. كان فيه شيء من طليقها جو ديماجيو، بطل البيسبول الذي لم تتمكن من نسيانه. خصلة الشعر المهملة على الجبين، على الطريقة اللاتينية.
إلى جانب الفن، انضمّ مونتان وزوجته سيمون إلى أوساط اليسار. وفي موسكو استقبلهما المسؤولون السوفيات كما يستقبلون رؤساء الدول. كان ذلك في الخمسينات. ثم أعلن الفنان الفرنسي القطيعة مع الحزب الشيوعي بعد أن سحقت دبابات الجيش الأحمر، عام 1968، ربيع براغ. لكنه لم يهجر النضال الذي ورثه في الدم من أبيه. وفي عام 1974 أقام حفلاً غنائياً في صالة «الأولمبيا» لصالح اللاجئين التشيليين بعد الانقلاب على الرئيس الليندي. ولما ظهرت حركة «تضامن» في بولونيا كان من أوائل مؤيديها.
لم يتخل مونتان عن سيمون، طيلة حياتها، ولم يتزوج غيرها. لم تلد له طفلاً، وكانت لها ابنة من زواج سابق. وبعد وفاتها، عام 1985، تزوج بسكرتيرته التي منحته ولده الوحيد فالانتان. وفي خريف 1991 ذهب للقاء سيمون وكان في السبعين من العمر، ودفن بجانبها في مقبرة «بير لاشيز» في باريس. وفي الثانية من بعد ظهر الغد سيرفع موظف المزاد مطرقته لتتبعثر ذكرياتهما وتذهب نظرة بياف إلى معجب يعيش على الرائحة.