خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

لا جديد تحت الشمس

عند تفجر الحروب والثورات، تتفاقم الشبهات. وهو ما حصل عند الثورة الفرنسية. وبالنظر لتفاعل الشعراء والأدباء الرومنطيقيين من كل بلدان أوروبا، وخصوصاً إنجلترا، بمبادئ تلك الثورة، فقد دارت الشبهات حولهم، ولا سيما في السنوات التي دخلت فيها بريطانيا بحرب مع فرنسا في أيام نابليون. ساد الذعر عندئذ تجاه غزو محتمل من فرنسا. وفي هذه الأثناء، توارى الشاعر كولردج وزوجته، والشاعر ووردسويث وشقيقته الأديبة دوروثي، وزملاء آخرون، في ناحية الفوكستن على الشاطئ البريطاني، هروباً من هذه الشبهات. وسرعان ما لحق بهم المفكر الثوري ثلوول الذي حوكم قبل ثلاث سنوات بتهمة الخيانة العظمى.
أثار ظهور هؤلاء الشعراء والأدباء شكوك السكان. ويظهر أن تلاواتهم للنصوص الأجنبية والقصائد الشعرية جعلت المخبرين ووكلاء المخابرات يتصورون أنهم يتكلمون باللغة الفرنسية، لغة العدو، وأنهم ليسوا سوى جواسيس وطلائع للبحرية الفرنسية. فجرت بصدد ذلك مراسلات سرية في غاية الطرافة؛ كتب أحد المخبرين الرسالة التالية إلى وزير الداخلية:
«سيدي الدوق، لقد تجاوزت قدري، فكتبت لسموكم عن هذا الموضوع الخطير جداً، المتعلق بعائلة من المهاجرين، استطاعوا بالحيلة والمكر أن يشغلوا دار المانشن هاوس في فوكستن. وقد أحطت علماً الآن بأن سيد هذه العائلة ليس له زوجة، وتسكن معه امرأة يدعي أنها شقيقته. لهذا الرجل كراسٍ يدوية يحملها هو وزملاؤه معهم عندما يخرجون ويتوغلون في أعماق الريف أثناء جولاتهم الاستطلاعية. ويأخذ معه دفتراً كبيراً يدون فيه ملاحظاته؛ وسمع الناس منه أنه أوشك على الانتهاء منه، وسمعوه أيضاً يقول إنه لا بد أن يكسب منه بعض المال. وقد لوحظ أنهم يهتمون كثيراً بشواطئ النهر قربهم إلى مسافة تقرب من ميل واحد من الفوكستن. ويحتمل أن يكون هؤلاء الأشخاص يتلقون تعليماتهم من مدينة برستل».
تلت ذلك رسالة من المخبر إلى وكيل وزارة الخارجية، يقول فيها: «أخبرني موغ أنه التقى توماس جونس، وأخبره هذا بأن أفراداً فرنسيين حصلوا على المانشن هاوس، ورآهم يغسلون ويصلحون ملابسهم، وهو يتخوف من وجودهم، ولم يعد يذهب لذلك المكان. التقى أيضاً كرستوفر الذي أخبره بأن هؤلاء الفرنسيين حصلوا على مخطط البيت والأماكن التي حوله في هذا الجزء من البلاد. وقد سألوه ما إذا كان الجدول المار أمام بيتهم يصلح للملاحة إلى البحر. وشوهدوا فيما بعد يتحرون عن سير الزوارق فيه. وتكلم موغ مع آخرين أكدوا له أنهم جميعاً يشكون في هؤلاء الفرنسيين، ويعتبرونهم خطراً على البلاد».
وقد أجاب الوزير على تلك الرسالة بكتاب، قال فيه: «إن عليك أن تذهب فوراً إلى فوكستن، وتتحرى بصورة حذرة في حركات هؤلاء الأشخاص، وعن حركاتهم. وتجد عشرين جنيهاً لمصروفاتك».
كان هؤلاء الأشخاص عمالقة الشعر الإنجليزي الذين كانوا منهمكين بنظم القصائد الخالدة في الأدب الإنجليزي. والحكاية تذكرني تماماً بما قامت به الشرطة العراقية عندما رأوا الفنان الكبير جواد سليم جالساً على الرصيف يرسم المنظر الذي حوله، فحققوا معه، على أساس أنه جاسوس إسرائيلي.