د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

حساسية تاريخية ضد النقاش

إن الأمم المتقدمة التي تمكنت من فض نزاعاتها الدينية والعرقية والثقافية والسياسية لم تفعل ذلك إلا لأنها كانت شديدة الإيمان بأهمية النقاش الوطني وطرح العراقيل عارية فوق الطاولة للتدبر وإعمال العقل، وتداول الآراء والنقاش وفق أعلى نبرة أحياناً، ثم يتم التوافق حول مجموعة من التصورات التي تكفل للأطراف المختلفة وللانتماءات المختلفة وللمصالح المختلفة حقها، فتكون النتيجة بناء وفاق وطني يكون عقداً اجتماعياً ملزماً للجميع وحامي خصوصيات الجميع.
فالمسارات التاريخية الناجحة هي التي كان النقاش طريقة المجتمع في معالجة المشكلات، وفي التواصل والحوار. ذلك أن النقاش يُقرب ويمتص العنف، ويخلق مرونة باعتبار أن النقاش يجعل المختلفين يعرفون بعضهم بعضاً، ويدركون القواسم المشتركة. بل إن النقاش ليس فقط مظهر تحضر بقدر ما يكشف عن قدرة عالية على الاعتراف بالآخر واحترامه، وعلى إرادة العلاج الحقيقية.
ففيما يخص المجتمعات العربية، فإنها ظلت تحت هيمنة ثقافة المسكوت عنه الذي يعادي فكرة النقاش جملة وتفصيلاً، حيث النقاش يستنطق المسكوت عنه. لذلك؛ كان العنف حاضراً بقوة في تاريخنا، وها هو يواصل الحضور بأشكال أكثر عنفاً وخطورة.
ولا يخفى علينا أن للنقاش شروطاً تبدو غالبيتها غائبة في الثقافة العربية، ولعل أهمها احترام الآخر والعقل والمختلف.
ولما كان النقاش ممارسة ضعيفة في المجتمعات العربية، فإن عمليات البناء الاجتماعي في مرحلة ما بعد الاستقالات في الخمسينات والستينات من القرن الماضي للدول العربية... كانت بناءات هشة لم تعرف النقاش الوطني، ولم تكن الخيارات نتاج تصورات الأطراف المختلفة في الوطن. ولقد رأينا كيف أن غياب النقاش في مرحلة بناء الدولة وخوض المراحل التاريخية الكبرى لأوطاننا كانت فواتيره باهظة جداً: تأخر في التنمية، وإهدار للطاقات وللإنسان العربي، وأحقاد آيديولوجية دفينة.
المشكلة أن ظاهرة القفز على اعتماد النقاش طريقة في التفكير في مستقبل الوطن ظلت قائمة الذات، ولم نتعلم أهم دروس إخفاقاتنا. ففي تونس مثلاً، ظل النقاش الوطني غائباً طيلة فترة الحكم البورقيبي، ثم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وذهب في ذهن التونسيين أن تونس خالية من المشكلات الآيديولوجية، وأن الإسلام السياسي قضي عليه نهائياً، وتونس سائرة بخطى ثابتة دون تشويش في طريق التحديث، وما كان ينقصها فقط هو الديمقراطية والحرية في التعبير وفي النشاط السياسي الحر.
وحصلت ثورة 14 يناير (كانون الثاني) 2011، وكانت الأسباب المبحوث فيها: مشكلات البطالة، وهيمنة العائلة الحاكمة على الاقتصاد التونسي، وبلوغ التضييق الإعلامي أعلى درجاته. بيد أن ما حصل أن الإسلام السياسي التونسي أعلن عن نفسه بسرعة، وعادت القيادات وشاركت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وفازت بالأغلبية النسبية وحكمت البلاد، والآن هي تحكم تونس مناصفة مع الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية والرئاسية في أواخر 2014.
ولكن حدث كل شيء إلا النقاش الوطني الصريح حول الطرفين المختلفين آيديولوجياً اختلافاً يتغذى من عداء وكره تاريخيين.
نعم، في تونس هناك أزمة تواصل بين الإسلاميين والدستوريين: لا يوجد غير التوافق السياسي المرحلي العابر والظرفي الذي فرضته نتائج الانتخابات. إكراه على التعايش.
لم يجرب الإسلاميون والحداثيون الجلوس والنقاش حول مستقبل تونس بعيداً عن كل الحسابات السياسية، وحتى عن قبة البرلمان التي في النهاية تحتكم إلى قانون الأصوات ونسبة التصويت.
لذلك؛ ساءت الأمور في تونس وأصبح الفساد أكثر، والعنف أكبر والأمن أقل. الجميع يعرف أن التحالف بين القوتين ظرفي، وأن الانفجار آتٍ لا محالة؛ الشيء الذي جعل بعض رجال الأعمال يدخلون السياسة ويشترون الأصوات كي يحقق ما يعتقد أنه أمناً بالنسبة إلى مصالحه. بل إن الكثير من الشخصيات رأت في الانضمام إلى أحزاب أفضل وسيلة لتوفير الحماية في صورة الحاجة إلى ذلك.
إن بين الأمن الاجتماعي والسياسي والثقافي والنقاش علاقة وطيدة جداً: النقاش يؤدي إلى بناء حاضر ومستقبل يستند إلى تصورات الجميع، ويطمس مخاوف الجميع. وعندما يشعر الجميع بالأمن والحماية والألفة الاجتماعية، وبأنه فوق الاستهداف ستنقص ظواهر الفساد والخيانات والحسابات الضيقة. فالنقاش هو الذي يجسد فكرة الوطن الآمن، وفكرة الاعتراف بالجميع. في حين أن البناء دون نقاش هو مواصلة للأخطاء التاريخية نفسها، واستمرار ممنهج في معاداة النقاش. إن الاختلاف الثقافي والآيديولوجي لا يحل إلا بالنقاش أو العنف، وكل نخبة سياسية عربية حاكمة تهمل النقاش، وتعتبره ترفاً، تكون - من دون أن تعلم ربما - مشجعة للغضب؛ إذ النقاش يلبي حاجة كل طرف إلى الاعتراف به والوجود وفرض بصمته وصوته وتصوره لمستقبل أوطاننا.
فالرضوخ إلى نتائج صناديق الاقتراع تمثل خطوة لاحقة لمرحلة النقاش الوطني، وبناء تصور مشترك لا يخضع لنفاق اللحظة والمصلحة القصيرة والحال. إن التاريخ علمنا أنه لا شيء يستمر ويمر إلا بالنقاش. التاريخ بين المجتمع.