بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

مآسي التطرف وجنونه

تأثير التطرف المُعلن واضح لأبصار الناس كافة. تراه الأعين دماءَ أطفال أبرياء تنضح من إناء إرهاب القتل بشوارع مشارق الأرض ومغاربها، وتسمع دوّيَه الآذانُ أوجاعَ أمهاتٍ ثُكِلن بفلذات أكبادهن، وآباءٍ فقدوا أبناءهم قبل أن يفرحوا بشبابهم، وزوجاتٍ ترمّلن قبل الأوان. كم مرة قيل إن الكراهية لا دين لها، والعنصرية لا لون يخصها، ثم إن قتل نفس واحدة يعادل إزهاق أنفس البشر كلهم، أياً كان الجنس والدين والعِرق؟ ملايين المرات أم أنها مليارات؟ ليس مهماً الفرق، المهم أن بريق تلك العبارات ملأ أبصار القرون على امتداد الكوكب، ورنين طنينها أطنب أسماع أقوام مختلف المعتقدات، طوال قرون يصعب إحصاؤها. مع ذلك، لم يزل التطرف الظلوم الجهول يعجز عن رؤية الحق الواضح القائل إن خالق البشر هو مانح الحياة، وهو مُسترجعها إذ تستوفي أجلها. نعم، إن كل معتدٍٍ على حياة إنسان إنما يتعدى حدود خالقها، ولا غرو، إذ ذاك، إنْ سَهّل الغلو عليه تجريد نفسه من إنسانيتها فأقدم على نحرها، ليُقتل معها آخرون تصادف وجودهم حوله.
جريمة «مانشستر أرينا» ليست هي الأولى في بشاعتها، ولا مجزرة أطفال الحافلة بمصر فريدة زمنها. ثم، بكل ألمٍ وأسف وإقرار بالواقع، ليس في الأفق المنظور ما يرجّح أنهما آخر المآسي. هو واقع يقول إن سؤال أجهزة الأمن في أغلب العواصم لم يعد عن احتمال وقوع جرم دموي نتيجة فعل إرهابي، بل أصبح التساؤل: أين، متى، كيف، مَن، أما لماذا، فلم تعد ضرورية. صار التخمين أقرب إلى اليقين: «إنهم جهاديون». الإقرار بهذا الواقع يتطلب بدوره الرجوع للذات بغرض إجراء مراجعة تبحث في كوامن التقصير العربي - الإسلامي إزاء مواجهة شرور التطرف، عندما بدأت ملامحها منذ هزيمة خامس يونيو (حزيران) 1967، قبل نصف قرن، ثم بدأ خطرها يكبر مع ظاهرة «الأفغان العرب». تبع ذلك غض النظر عن مجازر حرب الجزائر مطلع تسعينات القرن الماضي.
هذه المراجعة لم تحصل بعد. أو قل إن ما جرى من مراجعات نقدية - بعد أُم كل جرائم إرهاب هذا العصر (11/ 9/ 2001) - لم يجرِ تطويره على نحو يفصل بين أي نص يُوظف لتبرير القتل بزعم «الجهاد»، والفعل الإرهابي المُستهدف أبرياء عُزّل. ما دام لم يقع هذا الفصل الواضح كل الوضوح، والمستند إلى إجماع علماء أفاضل يتمتع كل منهم بوضع وازن في بلده وخارجه، ويمثلون مختلف الاجتهادات، سوف يتواصل اصطياد شبان، وبكثير من اليسر يجري التغرير بهم، بالاستناد إلى تأويل فاسد للنص.
مقابل ضرورة المراجعة عربياً وإسلامياً، هناك أيضاً إعادة نظر ضرورية من جانب شرائح فكرية وإعلامية في المجتمعات الغربية بداخلها تطرف خفي. المقصود هنا هي الشرائح التي، سواء قصدت أو لم تقصد، تستخدم مفردات تفيد مروّجي الفكر المتطرف المُستخدم في التجنيد الإرهابي. كم مرة نُصِح هؤلاء أن يكفوا عن التعميم، وأن يتوقفوا عن إعادة إنتاج «صورة نمطية» تضع الجاليات الإسلامية في الغرب عموماً موضع شبهة، أو اتهام صريح أحياناً. ليس الاعتراض هنا على أن أغلب مقترفي إرهاب العشرين سنة الماضية في مجتمعات الغرب مسلمون. هم كذلك. إنما تكرار الربط بينهم وبين دينهم هو بالضبط هدفهم. إنه يعزز مزاعمهم أكثر مما يدحضها. ثم إنه يُجَهّز النشء الجديد كي يقلدهم. يكاد الواحد منهم يغدو كما نجوم الفن، فما العجب إن صار موضع إعجاب قُصّرٍ ليس لهم من العلم الحق أي نصيب.
في إشارة لكثرة التناقضات ردد كثيرون، منذ بضع سنين، ما خلاصته أن «العالم فقد عقله». إنما قليلاً ما تساءل أولئك أنفسهم: هل يُصاب عاقل بالجنون فجأةً، بلا مقدمات؟ كلا، بالتأكيد، وإلا - مثلاً - كيف تُجن نجمة إذاعية في بريطانيا فتقترح «الحل النهائي» للمسألة الإسلامية في الغرب (إشارة للجرائم النازية). بالطبع، فُصلت الإذاعية فوراً من عملها، وهي بادرت للتراجع فعدّلت تغريدتها ليصبح اقتراحها دعوة للبحث عن «حل حقيقي». لكن هذا لا يمنع حقيقتين؛ أولاهما أن جنون التطرف بدأ يصيب حتى بعض عقلاء البشر. وثانيتهما أن أغلب نجوم الفكر المتطرف في العالمين العربي والإسلامي يصولون كما يحلو لهم، ويجولون في عقول المُغرر بهم وبهن، أنّى شاءوا. السؤال: إلى متى؟