روجر كوهين
كاتب, نيويورك تايمز
TT

«يالطا الجديدة» ومحاولة إحياء أوروبا

في نهاية المطاف، دارت الانتخابات الفرنسية الأخيرة حول أكثر الموضوعات غير المتوقعة؛ ألا وهو أوروبا. وأجل، فإن بطة أوروبا السوداء لسياسات عام 2016 - التي رفضتها بريطانيا، وسخر منها الرئيس ترمب - دفعت بإيمانويل ماكرون إلى داخل قصر الإليزيه بصفته أصغر رئيس تشهده فرنسا في تاريخها الحديث.
ظل ماكرون، طوال حملته الانتخابية، قوياً وراسخاً بشأن دعم الاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية الموحدة؛ اليورو. وكان ذلك الأمر محفوفاً بكثير من المخاطر، حيث كان التماهي مع الاتحاد الأوروبي في خضم الانتخابات الرئاسية من أوراق الفوز ضعيفة التأثير كما كان متوقعاً. ولكن كان اليورو والاتحاد الأوروبي، على وجه التحديد، هما الحافة؛ حيث أقدمت مارين لوبان، مرشحة التيار اليميني القومي المتطرف، على الانتحار السياسي العام.
وفي المناظرة التلفزيونية الأخيرة، قبل أيام من التصويت الذي جرى خلال الشهر الحالي، تلعثمت وثرثرت بما فيه الكفاية لدقائق معدودة حول أوروبا وعملتها الموحدة. وكانت تصريحاتها، كما وصفها السيد ماكرون، «ثرثرة لا معنى لها». ولقد كانت تلك الثرثرة هي التي لمست أكثر مجالات الشعب الفرنسي حساسية: محافظ الجيوب!
ولا يُكثر الشعب الفرنسي، على العكس من الشعب الأميركي، الحديث عن المال، ولكنهم يفكرون فيه مثل أي شعب آخر.
خلطت السيدة لوبان بين اليورو وبين سلة العملات الأوروبية التي كانت تستخدم فيما سبق وحدةً للحساب، ويبدو أنها كانت تعتقد أن بريطانيا كانت من دول اليورو، ومن ثم زعمت أن الخروج البريطاني قد دفع بالاقتصاد البريطاني إلى عنان السماء، كما أنها ثرثرت حول التعايش بين الفرنك الفرنسي للشعب واليورو للشركات والمؤسسات، ويبدو أنها قد قررت أن تغادر الدول الأوروبية الأخرى منطقة اليورو في الوقت نفسه الذي تغادرها فيه فرنسا تحت قيادتها. ولقد اتهمت السيد ماكرون بالخضوع والإذعان للفيدرالية الأوروبية.
جاء الرد سريعاً وحاسماً، كما كان مدمراً أيضاً، لأن الشعب الفرنسي، كما اتضح لاحقاً، لديه ارتباط قوي باليورو. ولقد قال ماكرون إن قيمة مدخرات الشعب سوف تنخفض بنسبة ما بين 20 و30 في المائة في اليوم التالي لعودة التعامل بالفرنك الفرنسي. وتساءل: كيف يمكن لمختلف الشركات؛ من شركة «كانتال» للجبن وحتى مؤسسة «إيرباص» العملاقة - أي الشركات الصغيرة أو الكبيرة ذات الاندماج والتكامل التام ضمن الاقتصاد الأوروبي - العمل بمجرد اضطرارها لإجراء التعاملات المالية الخارجية باليورو وسداد رواتب الموظفين في الداخل بالفرنك الفرنسي؟ وتوقع عودة ضوابط الرأسمالية مع اندفاع الناس لإخراج أموالهم خارج البلاد.
ولقد نظرت إليه السيدة لوبان شذراً، وضحكت، ثم بدت على وشك الانهيار الكلي على نحو مفاجئ. لقد كانت النهاية. لقد قضت عليها أوروبا. بالنسبة لكثير من المعجبين بأوروبا، وأنا أفخر بمثل هذا الإعجاب، كانت تلك من أمتع اللحظات بعد تلك المناظرة القاسية.
لقد ارتكبت السيدة لوبان خطأً حسابياً قاتلاً، لأن فرنسا، حيث يزين العلم الأوروبي كثيراً من المباني الحكومية والعامة، ليست هي بريطانيا، بل إنها العضو المؤسس للاتحاد الأوروبي، ولا يزال الاتحاد يتعلق بمختلف الطرق بالتطلعات الفرنسية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكما قال لي العالم السياسي جاك روبنيك: «بالنسبة لألمانيا، كان الاتحاد الأوروبي هو الخلاص. أما بالنسبة لفرنسا، فكان يمثل الطموح بوسائل أخرى بعد الإذلال الذي لاقته في الحرب العالمية الثانية وإنهاء الاستعمار».
واجه الزوجان «الفرنسي والألماني» المشكلات والمتاعب في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ بسبب فقدان التوازن في خضم التوحيد الألماني، ولكن الالتزام المشترك بالفكرة الأوروبية لا يزال أساسياً بالنسبة لكلا البلدين. وباتت هذه الفكرة يتجدد بريقها على نحو مفاجئ في أعقاب الخروج البريطاني الذي أثار انتباه العقول وبسبب ما أطلق عليه الفرنسيون اسم «يالطا الجديدة».
وفي مقابلة شخصية أجرتها صحيفة «لوموند» مع جان لوي بورلانجيس، العضو الأسبق في البرلمان الأوروبي، عرّف «يالطا» في القرن الحادي والعشرين بأنها «الزوجان الروسي والأميركي اللذان لا يخفيان عداءهما الواضح للاتحاد الأوروبي واستقلال الشعب الأوروبي».
وهذا بدوره يلهم الشعور بأن الطريق ممهد أمام أوروبا لقيادة العالم الحر للدفاع عن قيمه الأصيلة، وذلك لأن الولايات المتحدة تحت قيادة ترمب قد تخلت عن هذا الدور الكبير.
ومن المتوقع أن تفوز المستشارة ميركل في الانتخابات الألمانية في سبتمبر (أيلول) المقبل. ومن شأن الثنائي «ماكرون - ميركل» أن يكون عظيماً. وعليهما أن ينجحا في مجالات عدة إذا ما قُدر لأوروبا اغتنام هذه الفرصة. والمجال الأولى بالأهمية هو الأمن؛ إذ يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى وجود حدود خارجية قوية وفعالة. والمجال الثاني هو المالية؛ حيث يمكن لليورو على المدى البعيد أن يعمل وينجح من خلال ضبط الأوضاع المالية في القارة. والمجال الثالث هو النمو الاقتصادي؛ حيث تحاول أوروبا الخروج ببطء من حالة الركود، ولكنها في حاجة إلى خلق مزيد من فرص العمل، ولذلك، فإن إصلاحات سوق العمل التي يخطط لها السيد ماكرون سوف تكون من الأهمية بمكان. والمجال الرابع هو التضامن؛ حيث إن الموجة الحرة التي ركبتها كل من هنغاريا وبولندا مستفيدتين من التحويلات المالية واسعة النطاق في الاتحاد الأوروبي على حساب القيم الأوروبية من خلال النزعات الاستبدادية الداخلية المتنامية، لا بد من إيقافها على الفور. والأمر بسيط للغاية: ليست هناك أموال حرة من دون صحافة حرة وهيئات قضائية مستقلة.
إن ماكرون وميركل من الزعماء الشغوفين والمتحمسين للغاية تجاه أوروبا (كما هو الأمر أيضاً بالنسبة للمنافس الديمقراطي الاجتماعي الألماني مارتن شولتز). أما بالنسبة لتهديدات السيد بوتين، والسياسة الخارجية للسيد ترمب، والرعونة البريطانية الهوجاء - إلى جانب التعافي الاقتصادي الذي يجذب مزيداً من الزخم - فلقد منحت فرصة فريدة للاتحاد الأوروبي لإحياء حلم أوروبا الفيدرالية. ويمكن أن يكون عام 2017 هو «عام أوروبا» بحق.

* خدمة «نيويورك تايمز»