خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

شاعران

اشتهر الشعراء الرومانطيقيون بهوس القراءة، وكان على رأسهم الشاعر الشاب برسي شيلي. كتب سيرة حياته الأديب الموله به توماس هوغ. فقال: كان شيلي يقرأ دائما. يقرأ حتى أثناء الأكل. يضع الكتاب أمامه بجانب الصحن، دائما مفتوحا وجاهزا. كثيرا ما نسي الشاي والكعك وترك اللحم والبطاطا تبرد. ولكن اهتمامه بموضوع الكتاب لا يبرد. اعتاد كثيرا على المشي وبيده الكتاب يقرأ لنفسه، إذا كان لوحده وبصوت عال إذا كان معه شخص ما. كان يأخذ مجلدا ضخما معه إلى الفراش ويستمر بالقراءة حتى تنتهي الشمعة. يخلد عندئذ للنوم على مضض وكره حتى يعود نور الصباح فيعاود القراءة عند الفجر الباكر. وبنتيجة كل هذا السهر والقراءة المستمرة، كثيرا ما استغرق في النوم خلال النهار. ففي لحظة واحدة تراه يغمض عينيه وينام كالطفل. كثيرا ما نقل نفسه من الكرسي إلى الأرض بجواره واستسلم للنوم على السجادة. وفي أيام الشتاء كان يرقد أمام النار ويتدفأ بها كالقطة. وكالقطة كانت النار القوية تشوي رأسه. وإذا حاول أحد أن يغطي رأسه، ويحميه من النار، سارع شيلي في نومه الى إزاحة الغطاء بغضب.
ومن الشعراء الرومانطيقيين، كان سذبي مدمنا على قراءة قصائده الملحمية المزعجة بصوت عال. كان يفعل ذلك لكل من يتطوع للتجربة القاسية قبل نشرها. حالما يرى شخصا جديدا يصطاده ويفرض عليه هذا العناء. وقع ذلك في أحد الأيام على شيلي. اصطحبه فورا إلى غرفة في الطابق الأعلى ثم قفل الباب وراءه بعناء ووضع المفتاح في جيبه.
كانت هناك نافذة للغرفة ولكنها كانت عالية من الأرض علواً لا يستطيع أي بطل أن يحاول القفز إليها. قال سذبي عندئذ لبرسي شيلي، يمكنك الآن أن تتمتع بشعري. اجلس واسترح!
كان كل الشعراء الرومانطيقيين يكرهون سذبي لموقفه الرجعي والسلفي الممج. لم يتمالك المسكين شيلي غير أن يرسل شهقة مؤدبة ثم جلس أمام المنضدة. وجلس سذبي أمامه ووضع مخطوطة ديوانه الجديد بينه وبين الزائر. وبدأ بالقراءة ببطء ووضوح. وإذا لم أكن مخطئا بدأ بقراءة قصيدة «لعنة». استولى الإعجاب الذاتي على سذبي فراح ينغم قراءته فيرفع صوته أحيانا ويخفضه أحيانا أخرى ليجسم القراءة الأروع، ويفسح المجال للسامع بأن يصفق ويعرب عن إعجابه.
لكنه لم يسمع أي تعليق أو تصفيق أو نقد أو صيحة إعجاب. كان الصمت مخيما تماما على الغرفة. تعجب سذبي من ذلك فرفع عينيه من المخطوطة أمامه لينظر إلى شيلي. ويا لدهشته، فلم يجد أمامه أي أثر لزميله الشاعر الآخر، برسي شيلي. لقد اختفى كليا من الغرفة. وكان ذلك أمرا غريبا حقا. لم يكن هروبه من الغرفة ممكنا قطـ، وهي على ذلك العلو. لقد اتخذ سذبي كافة الاحتياطات ضد ذلك. ومع هذا فقد اختفى الشاعر الآخر كليا من الغرفة. ولكنه سرعان ما اكتشف أن شيلي زحلق نفسه من الكرسي إلى الأرضية بكل هدوء وبدون أن يحدث أي صوت.
وهناك فوق السجادة استغرق هذا الشاعر الشاب المتمرد في نوم عميق تحت المنضدة الكبيرة وزميله سذبي يلعلع بقصيدته!