فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

قمم أرض القداسة تفضح الأحقاد

في عام 2001، طبع المفكّر البحريني محمد جابر الأنصاري كتابه «مساءلة الهزيمة: جديد العقل العربي بين صدمة 1967 ومنعطف الألفية»، تحدّث في فصولٍ منه عن المثقفين العرب ورؤيتهم للخليج، وذلك من خلال رصد مقولات وتصورات عن الإنسان الخليجي، خصوصاً وقد عاش طفراتٍ متلاحقة، واغتنى بوقتٍ كانت البلدان العربية الأخرى بمجملها تعاني من الآلام الاقتصادية والسياسية بعد عهودٍ من الاستعمار، وبسبب اضطراباتٍ سببتها الانقلابات العسكرية والحكومات المتبدّلة؛ كان الخليج حينها في أوجِ الغنى بسبب إدرار النفط والمعادن لأموال طائلة ساهمت بجعل الحكومات أكثر قدرةً على الإنفاق. في الكتاب، ينقل الأنصاري بأسفٍ مقولة لأبي يعرب المرزوقي الذي يصف الخليجيين بأن لا هم لهم إلا «البطن...». والمرزوقي مشهود له بترجماته القيّمة، وله مؤلفات يشار إليها بالبنان، لكن الفلتات السياسية التي يطرحها منذ سنواتٍ باتت كثيرة، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالحديث عن «البداوة» أو «الإنسان الخليجي» بشكلٍ عنصري وفوقي، وهي فوقيّة ليس لها ما يبررها، وضمن اغتباطٍ لا يعلل!
في 28 أبريل (نيسان) 2011، أجرى الأستاذ تركي الدخيل حواراً مع أبي يعرب المرزوقي، لبرنامج «إضاءات»، وسأله عن المقولة التي نسبها إليه الأنصاري، ثم أوضح بقولٍ يثبت نظرته تلك، إذ اعتبر الوصف تجاه الخليجيين هو «الصورة السائدة عن الخليجي السائح بالغرب»، ومن ثم قال: «إن هذه الصورة التي يقولها بعض العرب عنهم»، هو ثبّت هذه الصورة، وجعلها عبارة عاديةً... وأجاب وهو يبتسم جذلاً. ثم عاد المرزوقي، وبعد الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي الحليف دونالد ترمب، والقمم التي عقدها مع الملك سلمان وقادة السعودية وزعماء الخليج وممثل لأكثر من 55 دولة، ليعلّق بقولٍ ينضح بالعنصرية والفوقية والازدراء؛ يقول ضمن سلسلة تغريداتٍ نشرها على حسابه بـ«تويتر»: «الحلف لا يكون بين الحامي والمحمي، بل بين إرادتين ذواتي مشروعٍ مستقل، يتساويان في الطموح حتى يكون للشراكة معنى، الأقزام لا تحالف العماليق»!
هذه المقولة التي كتبها تمثّل جمعاً من المثقفين العرب المتهافتين على جوائز مؤسسات الخليج ومؤتمراتها وخيراتها، والمتطلعين لمكافآت زعمائها، والمستكثرين على الخليج غناه ونعمته، والمتوهمين بأنهم أكثر من مجتمعات الصحراء تعليماً وفهماً وإدراكاً، والمنطلقين من فوقيةٍ لا تتفق ورؤاهم الفلسفية المدعاة، أو التأصيل للمعاني الأخلاقية بالبحوث والكتابات، أو التمسّح بنفحات التصوّف، كل ذلك البناء النظري يتهاوى مع انبعاث الأحقاد المكنونة، عبر الاحتقار لمجتمعاتٍ لها تاريخها الضارب، الذي توازي به المجتمعات العربية الأخرى، فجلّ المهاجمين للخليج يعيشون في دولٍ بمستوى الدول موضع الشتم نفسه، أو أقل، إذ لم يهجو الخليج شخصاً انطلق من بلدٍ له فضل على البشرية، بل تتساوى الرؤوس حين نضع جردة الحساب.
بل إن بعض دول أولئك غارقة في الفساد والانهيار الاقتصادي، وتكاد تصنّف ضمن «الدول الفاشلة»، وضربت درساً تاريخياً في مستوى المديونيات والحاجة الاقتصادية والكساد المالي والتراجع العلمي والتعليمي والفقر القيمي.
غير ذلك المثال، عشرات الأصوات الزاعقة بمنصاتٍ متعددةٍ تحاضر على دول الخليج بطريقة إدارة أموالها. نعم، لقد قامت السعودية بعقد صفقاتٍ بمئات المليارات من الدولارات، وذلك للاستثمار العسكري والاقتصادي والصناعي، مع الحليف الأقوى بالعالم الولايات المتحدة الأميركية، دفعت السعودية هذه الأموال من حرّ مالها، من خيرات بطن أرضها، من النفط والغاز والمعادن؛ السعودية من أغنى دول العالم، والدولة العربية الوحيدة ضمن دول العشرين، وتضم الثقل الاستراتيجي الممثل بالحرمين الشريفين، والغنى المالي الذي تعيشه السعودية موعود بالمزيد؛ لدى السعودية مناطق بكر مليئة تسبح بالنفط، وتسيل بالغاز، تكفي لأجيالٍ متلاحقة، وقد عقدت السعودية هذه الصفقات لمصلحة أرضها وشعبها ووطنها أولاً. من بين كل القضايا التي يتغنى بها العرب، من قومييهم ويسارييهم وإسلامييهم، قضيتنا الأولى بلا منازع هي مصلحة أرضنا ومصلحة وطننا السعودية، ثم بمراحل تالية تأتي القضايا التي تهتم بها السعودية من باب المسألة الإنسانية وتزكيةً للمال الوفير، ولا تنتظر مردوداً من أحد.
حين كانت هذه الأرض بصحرائها لا مورد بها سوى التجارة، عبر سفر تجار «العقيلات» راجلين من دولةٍ إلى أخرى، كان الناس يصابون بالعمى من الجدري، ويموتون بسبب «الحمى»، والعرب شمالاً وشرقاً يعيشون على موارد أنهارهم، وطبيعة أرضهم وزراعتهم، وبما بقي من مؤسساتٍ ومساعداتٍ تقدمها الدولة الوصيّة عليها، غرقت صحراؤنا مراراً، كان إنسان الصحراء شامخاً لم يتسوّل منحةً من أحد، بل يصعد أعلى التلّ بليلة المطر هارباً من الغرق المحتّم. وحين جاءت الولايات المتحدة الدولة العظمى والحليف الأول إلينا، اكتشفت النفط ونعمنا به ورغدنا، وسافرنا باتجاه العالم، انطلقنا سائحين ومستمتعين، دارسين ومتعلمين، حينها استيقظت كوامن الحقد لدى أهل الخضرة والأنهار، يحسدوننا على معادننا وخيرات أرضنا الوفيّة التي أحرقتنا سنين بسبخها وقيظها، ولكنها سرعان ما وفت، حين اهتزّت الأرض عن النفط وربت، فأنبتت من كل زوجٍ بهيج. استيقظت قريحة نزار قباني حينها عن قصيدةٍ ضعيفة بعنوان «الحب والبترول»، بها يسخر من مرض الجدري الذي أكل جلود الأجداد بالخليج في سنين القحط، قائلاً بقصيدةٍ تنضح عنصرية:
أيا جَمَلاً من الصحراءِ لم يُلجمْ
ويا مَن يأكلُ الجدري منكَ الوجهَ والمعصمْ
إن القوميّة المتخشّبة، ودعاوى الوحدة وقصائد الانبعاث الصاعد، انتهى زمنها وولّى، نحن بزمن التحالف مع الدول العظمى المفيدة ذات القيمة الحضارية والأخلاقية والاقتصادية، مع الدول التي تضيف إلى حلفائها ولا تكون عبئاً عليه، نتحالف مع أميركا الدولة الأعظم والأقوى عبر التاريخ؛ إنها قوة القوى، وموئل كل شيء، يفخر الإنسان بأن يتحالف معها شامخاً عملاقاً، أرض القداسة كما يعبر ترمب. لقد كانت أميركا أعظم حليف استفدنا منه، ولم يكن حليف استهلاك وابتزاز، بل الحليف الذي علّم الكون كله الحضارة ذات الثقافة التي برمجت حياة البشر على هذه الأرض.
نعم، استثمرنا مع أميركا، وتشاركنا معها بأموال طائلة جداً، من حرّ مال هذه الأرض، ومن لديه مديونية معنا فليأتِ، فهذا الخير لأهلنا وشعبنا ووطننا، ولكل بلدٍ مورده، فاستثمروا بمواردكم، واعفونا من زعق البلاعيم، ومن الأوصاف العنصرية التي تدلعها بتكرير مستمر ألسنتكم المتدليّة. ومن جميل قول عثمان العمير معلقاً على أولئك: «نحن نذهب إلى المستقبل، مع أهل المستقبل». فلينظر كل مجتمعٍ أمع أهل المستقبل سينطلق، أم مع قوى الشر والإرهاب والظلام؟!