سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أبطال وجواسيس

بعد 69 عاماً من النكبة و50 سنة من النكسة، الخلافات كبيرة والقراءات متضاربة حول الرواية التاريخية لأسباب الهزائم المريرة التي مني بها العرب في فلسطين، ولا يزالون يجرجرون أذيالها. ثمة شخصيات بطلة عند البعض يسمها آخرون بالجاسوسية والعمالة. الحكايات تكاد تكون متناقضة حتى حول تفاصيل المعارك الصغيرة التي دارت في القرى والبلدات يومها. «الإحساس الكبير بالامتهان والخسارة هما اللذان منعا العرب من قراءة تاريخهم بتمعن» تقول المستشرقة الإنجليزية ليلى بارسونز، المتخصصة في تلك المرحلة الضبابية من تاريخنا: «ومع ذلك ثمة أبطال قاتلوا وشرفاء دفعوا دماءهم ثمناً ويستحقون أن نتذكرهم». اختلط الحابل بالنابل ومزج الناس بين الغث والثمين.
واحدة من أكثر التفاصيل إثارة للفضول هي العلاقة الملتبسة بين فوزي القاوقجي الذي كلفته الجامعة العربية حينها قيادة «جيش الإنقاذ» والذهاب إلى فلسطين، وكتبت في بطولاته الأناشيد والأشعار، وصلته بمفتي القدس، من أبرز الشخصيات الفلسطينية في القرن العشرين الحاج أمين الحسيني، الذي لعب من الأدوار ما يفوق مكانته الدينية وأصبح اسماً وطنياً قيادياً.
بإمكانك أن تقرأ عن الرجلين ما يجعل كلاً منهما رمزاً ترفع له القبعات إجلالاً، وما يدفعك لأن تكنّ له بغضاً لا يسامح ولا يغتفر. اختر ما تشاء، ستجد الرواية التي تساندك جاهزة ودعائمها حاضرة. الوشاية والدسيسة والدعايات المغرضة سادت بين قادة ذاك الزمان وكانت من أهم أسباب الهزيمة، واللعبة مستمرة. نقص السلاح وفساد الذخائر وترك الرجال بلا مؤن، لم يكن أكثر خطراً، من المصالح الشخصية والحسابات الضيقة. حداثة المرحلة، وبعض من عاصروها لا يزالون أحياء يرزقون، يجعل الحكايات الشعبية تنتصر على البحث. الشفاهة تغلب المنهج العلمي. يقف بنيامين نتنياهو ببساطة ويتهم الحاج أمين الحسيني بأنه هو من نصح هتلر بحرق اليهود، ليتخلص منهم بدل أن يأتوا إلى فلسطين. روى بأن هتلر سأل المفتي السابق «ماذا عساي أن أفعل بهم؟» فأجاب الحسيني، حسب رواية نتنياهو: «أحرقوهم».
المؤرخون الإسرائيليون هم الذين سخروا من ادعاءات نتنياهو قبل العرب. كبيرة المؤرخين في مركز ياد فاشيم دينا بورات هي التي قالت إن «ملاحظات نتنياهو لا تتسم بالدقة. وإن الفكرة عند هتلر سبقت لقاءه مع الحسيني في نوفمبر (تشرين الثاني) 1941. عادت المؤرخة إلى كلمة كان ألقاها الزعيم النازي أمام الرايخشتاغ في الثلاثين من يناير (كانون الثاني) 1939 دعا فيها إلى إبادة الجنس اليهودي». هكذا ينتصر العلم للأعداء مثل الأصدقاء، ويحقّر الجاهل أبطاله حتى وهو يبجلهم. وللدفاع عن المفتي في وجه نتنياهو، منذ سنوات، سمعنا كثيرا من التصريحات السياسية من أفواه العرب والقليل جداً من الإثباتات التاريخية المقنعة. وأن يتمكن إسرائيلي من الانتصار للحسيني بأفضل من فلسطيني، فهذه طامة كبرى.
علاقة الحاج الحسيني مع ألمانيا تفهم لأنها كانت حال كل الوطنيين العرب الذين أملوا أن تنقذهم ألمانيا إن انتصرت من الاستعمار الجاثم على صدورهم، وهذا لا يعني فكراً نازياً أو ميولاً إجرامية. لكن الضبابية الأهم هي التي تلف علاقة الحسيني بالقادة العرب الآخرين. الكتاب الذي أصدرته المستشرقة بارسونز حديثاً حول فوزي القاوقجي، فيه تتبّع دقيق لمساره، ويظهر أنه كان على وعي بمدى حساسية الفلسطينيين من دوره في بلادهم، بسبب التجييش الذي مارسه الحسيني لتأليب الناس ضده. وتعتبر الباحثة أن الخلاف في أساسه، مزاحمات صغيرة على النفوذ والمكانة. لهذا كان القاوقجي وتفاديا للنزاعات الجانبية، يطلب إلى مقاتليه بأن ينسّقوا مع المقاتلين الفلسطينيين على الأرض، ويتحاشوا استفزازهم، أو الاندماج في وحداتهم، كي لا يرتفع منسوب الحساسيات.
اتهم فوزي القاوقجي في مذكراته المفتي الحسيني بأنه كان يغتال مناوئيه بعد أن يتهمهم بالعمالة، وأنه هو نفسه كان يتوقع اغتياله من قبل الحسيني بعد أن وجه له تهمة الجاسوسية. كتاب بارسونز يبرئ القاوقجي، من كل التباس حول دوره المزدوج الذي يحكي عنه. وكما هناك رواية كاملة محبوكة الخيوط والعقد حول بطولات القاوقجي ووطنيته وبسالته. تجد رواية شعبية لا تنقصها الدعائم والقرائن تخبرك عن مساره الملعون وعلاقاته المشبوهة.
يقول أحد الكتاب الذين وضعوا فوزي القاوقجي على لائحة العار، وعلى رأس من ضيعوا فلسطين «لا يهمني التاريخ العربي الرسمي بقدر ما يهمني التاريخ الفلسطيني خاصة الشفهي، الذي تعادل فيه شهادة عجوز فلسطينية في مخيمها ألف بيان عربي رسمي». ويغيب عن بال الكاتب أن الشفهي مجرد مصدر واحد، والحقائق لا تنجلي إلا بتنويع المراجع والمقارنة بينها. والمطلوب لا الخضوع للتأريخ الرسمي المشبوه ولا الاستكانة للحكايات الشفاهية المشوبة بالتأثيرات العاطفية والعصبيات الحماسية.
التأريخ الميكروسكوبي الدقيق، الذي يشرّح ويفنّد كل حادثة وواقعة، علم صعب يحتاج صبراً وموضوعية فائقة، ومن دونه سنبقى نمتهن أبطالنا ونتراشق بالشتائم بدل الحقائق، ونغرر بأنفسنا والأجيال الجديدة، التي في غالبيتها لم تسمع عن نكبة أو نكسة، وكل ما تعرفه أننا نكّسنا رؤوسها دون أن نمنحها بصيص أمل. ويذهب فكري الآن إلى أولاد القاوقجي، خصوصا ابنه أسامة الذي يعنى بإرثه وأحفاده، وعائلة الحسيني، فتهمة الخيانة ليست كأساً سهلة التجرع، خصوصا حين تكون ظلماً ونكراناً لجميل بحجم عمر.
تقول بارسونز إنها فتشت في المحفوظات البريطانية والإسرائيلية والعربية، ولم تعثر على أي دليل ولو صغيراً يدين القاوقجي أو ينال من وطنيته وعروبته. وقد تكون مقصّرة أو مخطئة، وهذا في العلم جائز. دور الفلسطينيين والعرب أن يبحثوا عن أدلتهم في المحفوظات والمخطوطات، وأن يبدأوا في التأريخ لقادتهم. فمن لا ماضي له لن يبصر غير مستقبل يعاني من ألزهايمر.