عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

احترس... قنبلة نووية في الفضاء المعلوماتي!

على الرغم من أن الهجوم الإلكتروني الذي طال 150 دولة يوم الجمعة الماضي، وعطل الخدمات في جهات متعددة، اعتبر الأوسع من نوعه حتى الآن، فإنه ليس الأخطر، لأن الأخطر في الطريق بالتأكيد، لكن لا أحد يعرف كيف ومتى.
الخبراء يحذروننا من زيادة حجم المخاطر مع تطور نوعية الهجمات الإلكترونية الكبيرة التي استهدفت مؤسسات حكومية أو شركات أو مصارف، أو تلك التي سرقت فيها البيانات والمعلومات المتعلقة بمئات الملايين من البشر. فاستنادا إلى دراسات أعدتها شركات متخصصة فإن تكلفة جرائم القرصنة الإلكترونية تضاعفت ما بين 2013 و2015 لتصل إلى 400 مليار دولار. وكل الأبحاث والدراسات تؤكد أن هذه الجرائم سوف تشهد ارتفاعا متواصلا في حجمها وانتشارها وتكلفتها خصوصا مع الاعتماد المتزايد على الإنترنت والكومبيوترات والهواتف الجوالة، والنمو في المعاملات الإلكترونية. ووفقا لدراسة أوردتها مجلة «فوربس» فإن تكلفة عمليات القرصنة الإلكترونية وسرقة المعلومات عالميا ستبلغ أكثر من تريليوني دولار في عام 2019.
لكن هذه الخسائر على ضخامتها، فإنها ليست مصدر القلق الحقيقي. فما يؤرق الجهات المعنية بأمن الإنترنت هو ما الذي سيحدث لو أن قراصنة الإنترنت، من أفراد أو عصابات إجرامية أو إرهابية، تمكنوا مثلا من السيطرة على نظام المراقبة الجوية في أحد المطارات الكبرى، أو استهدفوا شبكات الكهرباء أو عمليات المصارف بشكل واسع ومنسق؟
هذا على مستوى عمليات القرصنة العادية، لأن الحديث عن الحروب الإلكترونية على مستوى الدول يقودنا حتما إلى مجال آخر أكثر خطورة وأفدح ثمنا. لذلك نسمع اليوم دعوات من خبراء ومن مسؤولي شركات كبرى إلى وضع معاهدة أو معاهدات دولية على غرار معاهدات الحد من الانتشار النووي لمواجهة مخاطر الأمن المعلوماتي والحروب الإلكترونية وحماية الناس من آثارها. فبعد هجوم «برنامج الفدية» الأخير المسمى «وانا كراي» (أريد أن أبكي)، دعا براد سميث، رئيس شركة مايكروسوفت العملاقة التي استغل الهجوم ثغرة في نسخة قديمة من برنامجها التشغيلي «ويندوز»، إلى إبرام «معاهدة جنيف رقمية» لإلزام الحكومات بالتبليغ فورا عن أي ثغرة أمنية تكتشفها في البرامج المعلوماتية، وذلك لكي تتمكن الشركات المعنية من معالجتها لحماية الناس من المخاطر المحتملة.
السبب الذي جعل الرجل يطلق هذه الدعوة هو أن الجهة التي شنت هجوم الجمعة الماضي استخدمت ثغرات أمنية سرقت من وكالة الأمن الوطني الأميركية، ونشرت على موقع «ويكيليكس» الشهر الماضي بواسطة قراصنة كومبيوتر يطلقون على أنفسهم اسم «مضاربو الظل». وكانت الاستخبارات الأميركية اكتشفت هذه الثغرة في نظام تشغيل ويندوز في إطار عملياتها التي تنفق عليها مليارات الدولارات لتجميع وتخزين وتطوير قدراتها في الحرب الإلكترونية، لكن القراصنة تمكنوا من الوصول إليها بطريقة ما، لا تريد الجهات الرسمية الإفصاح عنها، لأنها قد تؤدي لإفشاء معلومات أمنية تعرضها لمزيد من مخاطر الاختراقات.
مسؤولون استخباراتيون أميركيون وخبراء أمن معلوماتي رجحوا أن يكون هجوم «برنامج الفدية - وانا كراي» مرتبطا بجماعات قرصنة تابعة لكوريا الشمالية، وذلك استنادا إلى أن البرنامج يستخدم شفرات مماثلة لتلك التي استخدمت في هجمات إلكترونية استهدفت شركة سوني اليابانية، والمصرف المركزي البنغلاديشي، ومصارف بولندية، وهي هجمات اعتبرت كوريا الشمالية مسؤولة عنها، إما لتصفية حساب سياسية مثل هجوم سوني الذي حدث بعد أن أنتجت الشركة فيلما يسخر من الزعيم الكوري كيم جونغ أون، وإما لمحاولة السطو على ملايين الدولارات مثلما حدث في اختراق أنظمة المصارف.
إذا صحت هذه الاتهامات فإن الهجوم الأخير قد يكون جزءا من عملية التصعيد والشد والجذب بين أميركا وكوريا الشمالية. لكن المشكلة أو المصيبة هي أن نسخا معدلة من فيروس «وانا كراي»، تباع حاليا كما يقول الخبراء، في السوق السوداء التي يديرها المجرمون المتخصصون في القرصنة الإلكترونية. وهذه النسخ التي تستفيد الآن من المعلومات المسروقة من وكالة الأمن الوطني الأميركي ستقع حتما في أيدي عصابات، وربما تصل إلى جماعات إرهابية، لا تتورع في استخدامها في هجمات أخرى.
لهذا لم يكن غريبا أن نسمع من يصف هذا التطور بأنه مثل قنبلة نووية في الفضاء المعلوماتي، على أساس أننا سنشهد في الفترة المقبلة هجمات أخرى قد تكون أكثر تعقيدا وخطورة. رئيس شركة مايكروسوفت شبه سرقة المعلومات المتعلقة بالثغرات في أنظمة التشغيل، بأنها كما لو أن كمية من صواريخ كروز سرقت من مخازن الجيش الأميركي واستخدمت بواسطة مجرمين لتهديد العالم. فمع تزايد المخاطر تزداد الحاجة إلى نظام أو معاهدة دولية لحماية الناس من الأخطار المتزايدة الناجمة عن الحروب والجرائم الإنترنتية. لكن ليس هناك ما يدل على أن العالم يقترب من ذلك، بل تبدو الدول الكبرى مشغولة بتطوير ترساناتها الهجومية والدفاعية تحسبا للحروب الإلكترونية، التي ستكون قدراتها التدميرية أكبر من أي شيء عهدناه.