روس دوثات
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

الأزمة أم الركود؟

بعد الإشكالات الغريبة والمتتالية في التاريخ الغربي الحديث، نستطيع أن نعتبر نتائج الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة جدا طبيعية. إن كل الساعات التي قضاها المعلقون، وهم يتصورون كيف يمكن لمارين لوبان الانتقال من نسبة الأربعين في المائة المتدنية إلى أقصى مسافة ممكنة لها تبين أنها ساعات مهدرة في لا شيء: إن خسارتها بنسبة 34 في المائة فقط، والفوز الكاسح الكبير لإيمانويل ماكرون، يدوران حول النتيجة التي يمكن توقعها بالفعل لو لم يكن هناك «بريكست» بريطاني، ولم تكن هناك أزمة للاجئين السوريين، ولا موجة الإرهاب العابرة لحدود القارة العتيقة، ولا يوجد شعور مفاجئ بإنجازات التاريخ الكبيرة التي استيقظت من سباتها على نحو عجيب.
بالطبع، إن كنت تفضل المزيد من القلق يمكنك التعامل مع تلك النتيجة بصورة مختلفة تماما. اقتربت مارين لوبان كثيرا من مضاعفة عدد الأصوات التي حازها والدها في انتخابات عام 2002. وكان ماكرون يدير نموذجه الخاص (التظاهري) من الحملة التي يممت شطر الخارج، وكان الحزبان الفرنسيان الكبيران في حالة من الانهيار الواضح، في حين أن الرئيس الجديد المبتدئ يواجه نفس مجموعة التحديات العسيرة التي تقف على رأسها حفنة من النقاد من ضعاف العقول، مع اعتبار حالة السيدة لوبان.
ولكنني لا أزال أشير إلى أن الحالة الطبيعية الأساسية للانتصار الانتخابي الكبير، وحالة الإعراض والصدمة القوية لدى الحركات الشعبوية، تعتبر من المؤشرات المفيدة للمراقبين الذين يحاولون الإجابة عن التساؤل الكبير في هذه اللحظة: هل عصرنا هو عصر الأزمات الغربية العميقة -كما يبدو الأمر بكل تأكيد، في الآونة الأخيرة- أو أنه أسفل كل هذا الزخم والغضب الشعبوي العارم لا يزال مجتمعنا الغربي يعاني من حالة متصلة من الركود، والجمود، ولكنه أبعد ما يكون بعد عن الثورة أو الانهيار؟
منذ تهاوي حائط برلين وإعلان فرنسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، كان «الركود» هو أفضل ما تدور حوله الجدالات والمناقشات حتى الآن. ومنذ عام 1989 فصاعدا، كانت المناقشات السياسية الغربية تدور في أضيق الحدود والنطاقات الممكنة، مع إقصاء الراديكاليين والرجعيين عنها بشكل كامل. وكانت الديمقراطية الليبرالية تفتقر إلى المنافسين الآيديولوجيين من أصحاب الحجج المعقولة، وفي الغرب وغيره من الأماكن: لم يكن الإسلام الراديكالي أو النزعة البوتينية تحظى بأي شيء مما حظيت به قبلها الآيديولوجية الماركسية والفاشية في أوج انتشارها. وأثارت التناقضات الرأسمالية الكثير من الانتقادات الصريحة، ولكن مع القليل للغاية من تفاعلات المقاومة النشيطة. وفي كل مرة تبرز أزمة تاريخية من المستوى العالمي - كأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أو الركود الكبير- ينتهي الأمر بها إلى تبادل نفس الحفنة من النخب الحاكمة داخل أو خارج دوائر السلطة.
لست في حاجة إلى إعادة النظر في كافة السبل التي تقاطعت بها السنوات القليلة الماضية في السياسات الغربية مع هذا النمط، أو كيف تمكنت الحركات الشعبوية من ترقية القوى غير المتوقعة انتقالا من وارسو مرورا بوستمنستر وانتهاء.
ولكن الأمر الأهم من التطورات السياسية، من المحتمل، كان اتساع الاحتمالات الآيديولوجية، والحس السائد لدى تياري اليمين واليسار الناشئين بأن الأفكار المنتزعة عن الوسط النيوليبرالي باتت مستحقة لإعادة النظر والاعتبار مرة أخرى.
ولذا، فإن الأمور صارت تبعث بأحاسيس مختلفة جدا قبل خمس أو عشر سنوات ماضية فحسب. فاليسار المتقاطع بات يجوب حرم مختلف الجامعات، وأصبح الفكر الرجعي يحظى بتغطيات مهنية في مجلة «نيويورك»، وعادت مفردات الثلاثينات «أميركا أولا!» تتردد مجددا على ألسنة أرباب الحكم والسياسة، وصار الأطفال يتحادثون حول الاشتراكية والتكاملية وربما أنباء تنظيم داعش الإرهابي كذلك، وهناك نفحة من غاز الأعصاب تفوح بين شوارع بيركلي، وأحاديث عن الانقسام والانفصال في الدوائر الكاثوليكية، ونوع غريب من الوطنية الدولية تتداول بطاقات اللعب على طاولات الجغرافيا السياسية.
ولكن كيف يبدو الاختلاف؟ وهذا هو السؤال الصعب، نظرا لأنه في مجال السياسات الغربية، فإن ما يبدو في بعض الأحيان كمثل التغير الكبير لا يعدو كونه مجرد تشنج محدود التأثير -وربما أكثر أهمية من النزعة البوكانانية، أو «احتلال وول ستريت»، أو التقدم الهائل المفاجئ الأخير لدى مارين لوبان والذي جرى في نهاية المطاف احتواؤه، واستيعابه، ونزع فتيله بالكلية.
ونظرة سريعة على أسواق الأسهم تعكس الكيفية التي يراهن بها أرباب الأموال في الغرب، وليس من دون سبب ما. ففي بريطانيا، أسفر تبني تيريزا ماي الصارم لقضية الخروج البريطاني عن انتزاع فحوى القضية برمتها من تيار اليمين المتطرف، ولم يجد تيار اليسار المؤيد لجيرمي كوربين من نتيجة سوى الانهيار المدمر. وفي الولايات المتحدة، تتحرك قضية القومية الوطنية نحو الانزواء فيما يشبه الغيبوبة الريغانية في الداخل واستراتيجيات احتواء الدول المارقة لفترة ما بعد الحرب الباردة في الخارج -فالأولى حجبتها احتمالات القذف والرمي بالتهم، أما الثانية فأنهكتها سقطات قلة الخبرة والكفاءة بمختلف السبل المروعة، ولكن أيا منها لا تجسد قط ثورة ما بعد الحرب الباردة الآيديولوجية الراقية التي تعهدت النزعة الترمبية ذات مرة باستعادتها أو إثارتها من مكامنها.
وفي فرنسا، جاء الأداء المتدني والمخيب للآمال لمارين لوبان بعد سنوات من محاولات الانطلاق صوب الوسط الليبرالي، ومع وضع كافة الأحاديث والخطب عن الجمهورية محل الاعتبار، كانت السيدة لوبان تخوض سباقها الانتخابي كمثل الديغولي العلماني، وليس كمثل القائد الفاشي. وعلى أطراف القارة الأوروبية، لم يُفلح حزب القانون والعدالة اليميني المتطرف في بولندا في إقامة النظام الكاثوليكي المنشود، كما لم يُفلح حزب سيريزا اليوناني اليساري المتطرف في دغدغة مشاعر الشعب بجمهوريته الموعودة. إن الليبرالية الخاوية تأثيرها محدود، وقد لا تكون مناهضة لليبرالية الأصيلة على الإطلاق.
وفي الأثناء ذاتها، ومن زاوية شخص مثلي واسع القراءة والاطلاع (وربما مع قدر من التعاطف) في انتقاد الليبرالية الجديدة، فلست على يقين أن أيا من المحاولات النظرية المجردة في سياسات ما بعد الليبرالية قد تمكنت فعليا من تجاوز شرك ستفين بانون الخداعي، وفيه يكون التفاخر بذكر أسماء الشخصيات من الماضي الآيديولوجي المثير يستعاض به عن وضع خطة جديدة وفاعلة في أرض الواقع.
وعلى سبيل المثال، فإن مقالة «الثقافة المضادة» لتيار اليمين البديل والتي ظهرت على صفحات مجلة «نيويورك» تتضمن ذكرا لبعض الشخصيات الراديكالية بحق -فإن شخصية «مينسيوس مولدباغ» المستشهد كثيرا بآرائه يسعى فعليا إلى نوع ما من الملكية الحديثة- ولكن أطروحاته هي أكثر شعبوية، أو أكثر عرقية، أو أكثر إفراطا بقليل من الأطروحات العادية للمحافظين الأميركيين لما بعد مرحلة غولدووتر.
* خدمة «نيويورك تايمز»