عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ديمقراطية بريطانيا مصل واقٍ من «الشعبوية»

الأوساط الصحافية (مطبوعة، مرئية، مسموعة) الليبرالية، كامتداد للمؤسسة الليبرالية الديمقراطية التي تحكم العالم الغربي، بتركيبتها الاقتصادية السياسية الثقافية الاجتماعية، انتشر فيها تعبير «الشعبوية».
الاتحاد الأوروبي الذي تروّجه المؤسسة كـ«يوتوبيا» القرن، لا يوجد لديه سياسة لمواجهة «الشعبوية»، سوى ردود فعل تؤدي لسقوط أوراق التوت عن زعماء الاتحاد وتنامي الظاهرة... فإما يتجاهلون أسباب ارتفاع «الشعبوية»، أو يعزونها إلى «جهل الناس وانخفاض وعيها»، فتحاول المؤسسة الصحافية «تنوير» المتفرج والمستمع بصبغ هذه التيارات بألوان سلبية: «اليمين المتطرف»، و«العنصرية»، و«الفاشية». ولا يرى المواطن العادي دليلاً عملياً على هذه الاتهامات التي تأتي بنتائج عكسية. المؤسسة الصحافية تهين ذكاءه، وتهين كرامته بإلصاق التهم به، فهو الذي صوَّتَ بالخروج من الاتحاد الأوروبي، أو اختار برنامج مارين لوبان زعيمة الجبهة القومية الفرنسية، أو دونالد ترمب. فقد رأى في برامج أحزاب «اليمين» إما حلولاً لمشكلاته، أو على الأقل مناهضة لقوى خفضت مستوى معيشته واقتطعت من قوته في عصر العولمة (كالبنوك ومضاربي البورصة وشركات الاستثمار غير الإنتاجية).
فالناخب الفرنسي أمامه صباح اليوم، أسوأ خيارين في قرن كامل. وغالباً سيمنح صوته لشخص مجهول لم يختبره، كإيمانويل ماكرون، ليس لديه برنامج إصلاح ذو معنى، أو يقود حزباً اختبره الشعب. تصويت سلبي، لأن قوى صناعة الرأي العام تريد منع المدام لوبان من دخول الإليزيه بأي ثمن.
ولا تذكر الصحافة في أي مكان في العالم اسم لوبان بلا لصق صفة «مرشحة اليمين المتطرف»، بينما جزء معتَبَر من برنامجها الاقتصادي يساري راديكالي اشتراكي يميل للماركسية، كوقف استغلال مؤسسات العولمة للعمال، والحد من ابتزاز البنوك للمستهلك. بينما الرئيس دونالد ترمب، زعيم أكبر دولة تستفيد من حرية السوق والعولمة، يلجأ لبرامج دول الكتلة الاشتراكية، كحماية المنتجات الوطنية، وإجبار الشركات على خلق وظائف داخل الوطن. وخلطت المؤسسة الليبرالية الغربية ومثقفوها بين تيارات حماية التراث والمحافظة على الهوية الثقافية للمجتمع، والعنصرية والتوجس من الآخر أو الزينوفوبيا.
ما يهدد الهوية والثقافة البريطانية مثلاً التيارات اليسارية (والـ«بي بي سي» والـ«غارديان» قياداتهما العليا من البيض البريطانيين لا الأجانب) في حين أن الجيل الأكبر سناً من المهاجرين من بلدان الكومنولث أكثر حفاظاً على الهوية والتقاليد البريطانية من الأجيال الشابة إنجليزية العرق، خصوصاً في الملبس واستخدام اللغة والأدب الجمّ وبرود الأعصاب، وعادات اجتماعية، كشاي بعد الظهر، والولاء الكامل للنظام الملكي.
المؤسسة اليسارية الليبرالية لا تدخل في حوار مع، أو تقدم برامج بديلة عن، الأحزاب «اليمينية المتطرفة» و«الشعبوية» بل تستهدفها بالكراهية والتشويه.
المرشحة الفرنسية مارين لوبان تتربع اليوم على عرش هدف أسهم كراهية الصحافة الليبرالية، موقع ورثته عن الرئيس ترمب، وكان بدوره ورث اللقب عن زعماء تيار «البريكست» البريطاني (الخروج من الاتحاد الأوروبي) ورئيسة الوزراء تيريزا ماي.
ولو صدقت الاستطلاعات وهُزِمَت لوبان في انتخابات اليوم فستعود السيدة ماي لاحتلال منصب تلقي أسهم الكراهية والاتهامات من المؤسسة الليبرالية اليسارية الغربية، باعتبارها «انعكاساً لامتداد ظاهرة الشعبوية».
زعيمة حزب المحافظين (لم يُختَبر معدنها بتحديات مماثل للتي واجهت زعماء كالسير ونستون تشرشل أو الليدي ثاتشر) تعود شعبيتها لنوعية الأمة، بتطور ورقي الشخصية البريطانية التي صقلت عبر قرون طويلة من الممارسة الديمقراطية والاعتزاز بقدرة الفرد المستقل على الابتكار، بعيداً عن توجيه الحكومة، وبرود العقل، للاختيار بميزان المنطق والمصالح الاقتصادية البراغماتية قبل العواطف.
مقياس شعبية ماي هنا يعتبر علاجاً لظاهرة «الشعبوية» لا انعكاساً لها. معادلة تريزا ماي هي المصل الواقي للمجتمع من انحدار «الشعبوية» إلى الفوضى، أو تسليم مقاليد الأمور إلى أوتوقراطية معادية للديمقراطية تتحول إلى الفاشية، كتجربة ألمانيا الكارثية في ثلاثينات القرن الماضي بوصول النازي للحكم، بنظام انتخابي هو المتبع اليوم في معظم بلدان الاتحاد الأوروبي باستثناء بريطانيا. لكن العلاج يشترط قبول المفوضية الأوروبية (الأوتوقراطية المعاكسة للديمقراطية) بالإصلاحات التي طالب بها الرأي العام البريطاني لعقدين، بدلاً من شن الحرب السياسية والاقتصادية على لندن.
نتائج الانتخابات البلدية، اليومين الماضيين، جاءت لصالح المحافظين بزعامة ماي بشكل غير مسبوق، فتاريخياً يصوِّت الناخب في البلديات لصالح أحزاب المعارضة، على حساب الحزب الحاكم (المحافظون منذ 2010).
وإلى جانب نجاح السياسة الاقتصادية وفشل أحزاب المعارضة في تقديم سياسة اقتصادية جذابة، قدّم زعماء الاتحاد الأوروبي هدية للمحافظين بهجومهم على بريطانيا. هجوم بالتنسيق بين رئيس المفوضية الأوروبية والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في محادثة تليفونية عقب محادثات العشاء في «داونينغ ستريت»، وجاءت عبارات الهجوم متطابقة.
وبينما حوَّلَت الزعيمة البريطانية الهجوم إلى دعابة ساخرة أثناء الحملة الانتخابية، رآه الناخب هجوماً على بلاده وعقاباً للشعب على تصويته بالخروج من الاتحاد الأوروبي. نتائج الانتخابات المحلية تأكيد رفض الشعب للتطرف الأوروبي بنوعيه «الشعبوي» (اليميني)، واليسار الاشتراكي (البيروقراطية الإدارية المعادية للديمقراطية في أوتوقراطية الاتحاد الأوروبي).
حزب استقلال المملكة المتحدة تلاشى تقريباً من المجالس البلدية، وكان بلغ أوج شعبيته قبل أربع سنوات. هذا يعكس وعي الشعوب البريطانية بدور كل حزب في المرحلة التاريخية. «يوكيب» أو حزب استقلال المملكة المتحدة لعب دوراً تاريخياً لعقدين، فمن دون الحزب ونشاطه ما كانت حكومة كاميرون أجرت استفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي (في انتخابات البرلمان الأوروبي فاز الحزب بالعدد الأكبر من المقاعد) لكن الشعب أدرك أن دور الحزب انتهى، وبدلاً من تقسيم أصوات الخروجيين بين مرشحين حزبي الاستقلال والمحافظين، تجمعت الأصوات لتصب في صندوق المحافظين، مما يعطي السيدة ماي تفويضاً ودعماً قويين في المفاوضات مع بروكسل.
أما حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي جعل محور برنامجه البقاء في الاتحاد الأوروبي والاحتفاظ بقوانينه وإجراء استفتاء ثانٍ لإقناع الشعب بالبقاء تبعاً لبروكسل، فقد خسر ثلاثين من مقاعده في المجالس البلدية، مما يؤكد رفض الشعب لفكرة استفتاء ثانٍ.
خسائر البقائيين، واليسار، وتسليم الشعب حزب استقلال المملكة استمارة إنهاء الخدمة، يعني منح الأمة ثقتها للسيدة ماي لتقود البلاد، مع التأكيد - من تجربة ثمانية قرون - استحالة ممارسة، ناهيك عن تطوير، الديمقراطية خارج حدود الدولة القومية. وقد ثبت ذلك في انهيار وفشل الاتحاد السوفياتي، تجربة لم يتعلمها أوتوقراطيو الاتحاد الأوروبي المهرولون نحو الفيدرالية.