د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

التوقيت الاقتصادي للبحث والتطوير

يعد الاستثمار في البحث والتطوير أحد العوامل المهمة في نمو اقتصادات الأمم. وتعود هذه الأهمية إلى الصفات المميزة لهذا الاستثمار، فهو يعتمد أساسا على العقول، ولذا فهو استثمار في العقول تماما كما هو استثمار مالي. إضافة إلى ذلك، هو استثمار في المعلومة، وفي حال استثمرت هذه المعلومة استثمارا اقتصاديا، فهي تجعل الدول تنفرد بمنتجات تتميز عن مثيلاتها من الدول الأخرى.
وتدرك كبار الدول الصناعية أهمية الاستمرار في البحث والتطوير، مؤكدة بذلك أهمية هذا الاستثمار في دفع عجلة النمو الاقتصادية. إلا أن هذا الاستثمار يتأثر بالحالة الاقتصادية للبلد بشكل خاص، وبالاقتصاد العالمي بشكل عام. ولذلك فإن سياسة الاستثمار في البحث والتطوير تكون غالبا مدعومة من الحكومات من أجل مقاومة التغييرات الاقتصادية والتي قد تعصف بالاستثمارات.
وهنا قد يطرح السؤال: ما التوقيت الاقتصادي المناسب للاستثمار في البحث والتطوير؟ هل يتناسب هذا الاستثمار مع أوقات الرخاء، أم أنه يكون أكثر نفعا أثناء الركود الاقتصادي؟. لمعرفة الإجابة على هذا السؤال يجب معرفة بعض الخصائص للاستثمار في البحث والتطوير.
أولى هذه الخصائص أن هذا الاستثمار يعتمد على العقول، لذا فإن إيقاف هذا الاستثمار بعد بدئه يعني أن تنتقل هذه العقول إلى المنافسين وهو أمر يصعب تقبله، مما يجعل الشركات تفكر أكثر من مرة قبل أن تبدأ هذا الاستثمار.
ثانية هذه الخصائص أن هذا الاستثمار يعتمد وبشكل كبير على توفر السيولة المالية. وذلك لأن البحث والتطوير يعتبر من الاستثمارات الخطرة، فنتائج هذا الاستثمار غير مؤكدة، وهو ما يجعل الممولين بشكل عام يحجمون عن تمويل البحث والتطوير.
ولذلك، يجد البعض أن أوقات الرخاء هي الأوقات المناسبة للاستثمار في البحث والتطوير. فوفرة السيولة أثناء النمو الاقتصادي تحث المستثمرين على البحث عن فرص الاستثمار حتى وإن زاد معدل الخطر فيها. إضافة إلى أن كثرة المنافسين في مجالات الاستثمار الأخرى، تجعل بعض المستثمرين يلتفت إلى الاستثمارات طويلة المدى مثل الاستثمار في البحث والتطوير.
إلا أن الفريق الآخر يرى أن فترة الركود الاقتصادي هي الفترة المناسبة لهذا الاستثمار، تبريرهم لذلك يتمثل بأن الاستثمار أمر يجب حدوثه، سواء في فترات الركود أو الانتعاش الاقتصادي، وفي أثناء الانتعاش الاقتصادي يكثر الإقبال على الاستثمارات قصيرة المدى والمحسوسة، سواء كانت استثمارات عقارية أو خدمية. أما في حالة الركود الاقتصادي فإن هذه الاستثمارات المحسوسة تقل بسبب زيادة معدل الخطر التي تفرضها الحالة الاقتصادية للبلد. وبما أن الاستثمار أمر يجب حدوثه لدفع العجلة الاقتصادية، فإن البحث والتطوير هو الاستثمار المناسب لهذه الأوقات، لا سيما أن العنصر الأساسي لهذه الأبحاث هي العقول والتي تكون متوفرة، سواء في الجامعات أو المؤسسات العلمية.
إضافة إلى ذلك، ونظرا لأن معدل الخطر العالي أحد عيوب البحث والتطوير، ولكن أثناء الركود الاقتصادي يزيد هذا المعدل للاستثمارات المحسوسة، مما يجعل النوعين من الاستثمارات يتساويان في المخاطرة وهو من مصلحة الاستثمار في البحث والتطوير بلا شك.
وتركز الحكومات على دعم الاستثمار في البحث والتطوير لأسباب عدة، أولها أن هذه الاستثمارات تكون عادة طويلة المدى، وتعود فائدتها على الدولة بشكل كبير. كما أن هذه الاستثمارات تميز الدول بعضها عن بعض، فتوفر تقنية معينة لدى البلد، لا تعطيها قوة اقتصادية فقط، بل وتعطيها قوة سياسية أيضا، ويتمثل ذلك جليا في الدول المتميزة في تقنية الصناعات العسكرية أو الصناعات التكنولوجية.
والبحث والتطوير ينشئ منتجا من عدم، فقد لا تتوفر لدى الدولة الموارد الطبيعية للتصدير لدول أخرى، إلا أن البحث قد يجعلها تملك منتجا تتفرد فيه، ويكون مصدرا للدخل لهذا البلد.
ونظرا للانعكاس المباشر لهذا الاستثمار على اقتصاد الدول، فإن استراتيجيات الدول تلعب دورا أساسيا في دعم هذا الاستثمار، وهو ما تقوم به كبار دول العالم بأكثر من طريقة. فعلى سبيل المثال، تقوم الدول بتوجيه البنوك والمؤسسات المالية لدعم الشركات المستثمرة في البحث والتطوير. كما أن هذه الدول أيضا تحفز المستثمرين بشكل عام للاستثمار في البحث والتطوير.
وتعفي المملكة المتحدة كثيرا من الشركات الصغيرة والمتوسطة من دفع الضرائب، في حال استثمرت في البحث والتطوير، بل ويصل هذا التحفيز إلى نسبة 120 في المائة، أي أن الشركة قد تحصل على دعم مادي إضافي في بعض الحالات.
ويكون توجيه الحكومات للاستثمار في البحث والتطوير انتقائيا بحسب توجه الدولة نفسها، فتركز بعض الدول على الاستثمار في المجال العسكري، أو البترولي، أو الأدوية، ويتبين توجه الدولة من خلال نسبة الدعم في البحث لكل من هذه القطاعات.
وعلى الرغم من التغيرات الاقتصادية الكثيرة منذ بداية الألفية وحتى الوقت الحالي، فإن المؤشرات تدل على زيادة الاستثمار في البحث والتطوير لدى السبع دول الكبار، وفي ذلك دلالة على أن الاستثمار في البحث والتطوير مهم جدا، مهما كانت الحالة الاقتصادية الراهنة.