ديفيد اغناتيوس
صحافي وروائي. وهو محرر مشارك وكاتب عمود في صحيفة "واشنطن بوست". كتب ثماني روايات، بما في ذلك "جسد الأكاذيب"
TT

القصة الحقيقية لسقوط مايكل فلين

لقد نفد رصيد الحظ من السيد الجنرال المتقاعد مايكل فلين خلال الأشهر الأخيرة. فلقد تم فصله من منصب مستشار الأمن القومي الأميركي بعد تضليل زملائه حول محادثاته المشكوك فيها خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي مع السفير الروسي سيرغي كيسلياك. وهو يخضع الآن للتحقيق من قبل المفتش العام لوزارة الدفاع بشأن الإخفاق في الحصول على موافقة للمدفوعات التي تلقاها من مصادر روسية وأخرى تركية، على الرغم من التحذير الواضح في عام 2014 بأن مثل هذه الموافقة لازمة وضرورية.
ويكمن اللغز في: لماذا كان السيد فلين، الذي كانت سمعته تسبقه بصفته رجل استخبارات ملتزما ودقيقا خلال حياته المهنية في المؤسسة العسكرية، يتصرف بهذا القدر من الإهمال بعد خروجه من الحياة العسكرية؟ وتعتبر القصة من المآسي الشخصية بالنسبة للسيد فلين، ولكنها تعكس مشكلة كبيرة جدا داخل مجتمع الأمن القومي في الولايات المتحدة.
عندما ينتقل ضباط الاستخبارات مثل الجنرال فلين من دائرة العمل السري ذات القيود والحدود إلى العالم الكبير الواسع، فإنهم غالبا ما يرتكبون الأخطاء. فلقد كانوا يعيشون في وحدات فائقة السرية تلك التي تشبه الدائرة الأسرية المغلقة. وهم لا يدركون قواعد العمل والسلوك العام. وهم لا يتمتعون بأهلية الحياة الطبيعية. ولأجل ذلك فإنهم غالبا ما يدفعون ثمنا قاسيا جراء ذلك.
وهناك كثير من الأمثلة على إشكالية الانتقال هذه. كان جيمس جيه. إنغلتون الرئيس الأسبق والأشهر لوحدة مكافحة الجاسوسية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية غارقا في السرية حتى درجة الارتياب الشديد حال عمله في الوكالة. ولكن عندما غادر عمله متقاعدا في سبعينات القرن الماضي، لم يستطع التوقف عن الحديث إلى الصحافيين والمراسلين وغيرهم حول نظريات المؤامرة التي يؤمن بها. وبعض من ضباط الاستخبارات المركزية الأميركية السابقين يعانون من مشكلات مشابهة، وهي أنهم يتعاملون مع الصحافة أو مع عملاء جماعات الضغط السياسية بالأسلوب نفسه الذي يتعاملون به مع مصادرهم الخاصة.
ولقد تم فصل الجنرال ستانلي ماكريستال، وهو أحد أساتذة الجنرال فلين، من عمله قائدا للقوات في أفغانستان بعد أن أدلى هو وموظفوه بتعليقات غير لائقة إلى أحد مراسلي مجلة «رولينغ ستون». ولقد تورط الجنرال جون آلان، أحد أكثر القادة الجديرين بالإعجاب في أفغانستان، في مراسلات بالبريد الإلكتروني مع أحد الاشتراكيين من ولاية فلوريدا، الأمر الذي استدعى إجراء تحقيق في وزارة الدفاع وتعطيل تعيينه قائدا لقوات حلف شمال الأطلسي. والجنرال ديفيد بترايوس، وربما هو أكثر القادة شهرة بين أبناء جيله، قد أقر بأنه مذنب في مبادلة للمعلومات السرية وبشكل غير سليم مع كاتبة سيرته الذاتية، التي كان على علاقة عاطفية تربطه بها.
خدم كل من هؤلاء القادة بلادهم بطرق رائعة جدا. ولكن مع اعتبار الصعوبات التي واجهوها، فإنه يمكن للمرء أن يلاحظ نمطا من الأنماط. القيادة العليا هي عالم مستقل بذاته. والثقافة القبلية التي تغلف جميع أفراد الجيش والاستخبارات لدينا هي ثقافة ضيقة للغاية بالنسبة إلى المحاربين الأكثر سرية. حيث إنهم يفتقدون في بعض الأحيان إلى الإشارات التي تفيد بأن الحياة في الخارج مختلفة بصورة كبيرة.
لقد تلقى السيد فلين تحذيرا واضحا عندما غادر المؤسسة العسكرية بعد شغله منصب رئيس وكالة الاستخبارات الدفاعية، فقد أصدرت وزارة الدفاع الأميركية رسالة تلقاها السيد فلين بتاريخ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2014 حول «القيود الأخلاقية التي تنطبق عليك بعد التقاعد». ولقد أدرجت تلك التعليمات ثمانية من المجالات المعنية بفترة ما بعد العمل العسكري، بما في ذلك الالتزام بالحصول على الموافقة حيال أي مدفوعات أجنبية من أي نوع.
ولقد حاول السيد فلين تجاوز هذا الخط الأحمر عندما قبل مبلغ 45 ألف دولار أميركي مقابل التحدث إلى إحدى القنوات التلفزيونية الدعائية الروسية في عام 2015. وعندما قبل أيضا مبلغا يتجاوز نصف مليون دولار أميركي في عام 2016 من إحدى المؤسسات التي تربطها علاقات وثيقة بالحكومة التركية. ولقد سجل السيد فلين نفسه بأثر رجعي بصفته أحد الممثلين الحكوميين الأجانب الذين يعملون بالنيابة عن الحكومة التركية، وهو الأمر الذي حدث عشية انتخاب الرئيس دونالد ترمب واختيار السيد فلين في منصب مستشار الأمن القومي في الإدارة الأميركية الجديدة.
ومن شأن الفشل في الكشف عن هذه المعلومات في بعض الأحيان أن يعتبر انتهاكا صريحا للبند رقم 1001 من القانون الجنائي الأميركي، المعروف باسم أحكام «البيانات المزيفة».
عندما تُجري اللجان العسكرية ولجان الاستخبارات استعراضا لأحد المرشحين للمناصب الرفيعة في الحكومة، فمن المعروف أن اللجان تُولي اهتماما خاصا بما إذا كان المسؤولون يملكون القدرة على تقدير وإدارة المشكلات الدقيقة التي لا يمكن التنبؤ بها والتي قد تُطرح أمام القادة.
يحتاج القادة العسكريون إلى معرفة كيفية التواصل في العالم الواسع المفتوح. ولكنني أوجه لهم نصيحة: إن أشعة الشمس قد تسبب العمى في بعض الأحيان. ويمكن للناس الطيبين أن يرتكبوا بعض الحماقات. فلقد اعتادوا، بدرجة عميقة، على العيش وفق قوانينهم الخاصة، حتى إنهم في بعض الأحيان لا يعترفون بما تمليه عليهم القواعد والقوانين.
* خدمة «واشنطن بوست»