فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

سينما الصدفة... دهشة دلوز من وميض بريسون

تربت الصورة على كتف المشاهد بسطوعها عبر وميض الفيلم، تُسيّل الشخصيات، وتُنحت وتصاغ البطولات، وتُشعَل نيران العواطف، وترمي الصور شرر أيقوناتٍ، وتمرّ المعاني عبر الثيمات والعلامات، والصورة السينمائية سطح ممهّد لأنواع المسرحة والركض، بها يصنع الوهم الجميل، ويشيّد الواقع بقبحه وجماله، تجيء السينما لتكون أخصّ من الصورة بزمانيتها ومكانيتها، لتكون الفضاء الكاسر للحدّ التعريفي وللحدود المكانية.
تشتغل السينما على اللحظة، والومضة، والسمة، وهي شغّالة على الجزء من بين الكل، وربما صنعت ثيمة شاملة ضمن مشروعٍ إخراجي، أو تركيز بصري، كما في التركيز على «اليد» في أفلام روبير بريسون، وهي موضع محاضرة للفيلسوف الفرنسي جيل دلوز، يستطرد حول موضوع «اليد في سينما بريسون» يتحدث بصوتٍ متهدّج وبذهول: «إن السينما تحتوي على الكثير من أشكال الفلسفة، غير أن المسافة عند بريسون تعتبر شكلاً مميزاً من أشكال المسافة، وتم تجديدها واستخدامها مرة أخرى وبطرقٍ إبداعية، من قبل مبدعين آخرين، ولكني أعتقد أن بريسون كان من أوائل من صنعوا المسافة من خلال قطعٍ صغيرة غير متصلة فيما بينها، بمعنى أنها قطع صغيرة لم يتم تحديد اتصالها بشكلٍ محدد سلفاً، وحينما أقول دائماً إنه في كل أشكال الإبداع نجد العلاقة (مسافة زمن) هناك فقط المسافة والزمن، ولا شيء غيرهما، هنا تتجه كل الحركة والزمن لدى بريسون إلى هذا النوع من المسافة. إن هذا النوع البريسوني من المسافة والقيمة السينماتوغرافية لليد في الصورة مرتبطان بلا شك، إن اتصال القطع الصغيرة من المسافة البريسونية التي ليست إلا قطعاً صغيرة غير مرتبطة فيما بينها لا يمكن أن تترابط إلا عن طريق اليد، وحدها اليد هي القادرة على خلق رابطة بين الجزء والآخر من المسافة، بريسون بلا شك هو أعظم المخرجين الذين أضافوا قيم الملموس إلى عالم السينما، وهذا ليس لأنه عرف كيف يصور تلك الأيدي ببراعة، لكنه إذا كان يجيد تصوير الأيدي ببراعة؛ فذلك لأنه في حاجة إلى تلك الأيدي».
شغل جيل دلوز على السينما يتجاوز الإشارة العاجلة لدى أفلاطون في صورة «الكهف»، وتعدّى البحث البصري لدى برغسون، ليشهد النصف الأخير من القرن العشرين اهتماماً كبيراً بالسينما. صحيح أنها كانت موضوعاً عابراً لدى جاك دريدا وفوكو، لكنها ستكون من صميم نظرية جيل دلوز الفلسفية بشمولها، ذلك أن النظرية الدلوزية تقوم على «صناعة المفاهيم»، وفي كتابه «ما الفلسفة» يعتبر المفهوم يمتلك دائماً تاريخاً حتى وإن كان هذا التاريخ متعرجاً، ويمر من خلال مشكلاتٍ أخرى أو فوق «المسطّحات المحايثة» المنفتحة على اللامتناهي، ويشتمل المفهوم على أجزاء ومكوّناتٍ آتية من مفاهيم أخرى، تكون قد أجابت عن مشكلاتٍ أخرى، وقد افترضت مستوياتٍ أخرى، هذا أمر لا محيد عنه لأن كل مفهومٍ يقوم بتقطيعٍ جديد، ورسم محيطاتٍ جديدة، مما يتطلب إعادة تفعيله وتفصيله ثانية، وبالنسبة إلى دلوز واهتمامه بالفلسفة فإن: «الفن والفلسفة يتابعان الاستقطاع في السديم ويواجهانه، ولكن لا يحدث ذلك فوق مسطّح المحايثة في القطعية عينها، ولا يجري ذلك بعين الطريقة في إشغاله؛ إذ لدينا في الفن كوكباتٍ كونية، ومؤثرات انفعالية، ومؤثرات إدراكية».
مدخل دلوز إلى الحفر الفلسفي في الشريط السينمائي من مفهمته الفلسفية (للهوامات والشبه) Simulacres et fantasmes، ويعني الصورة السائلة المنزلقة، السابحة على سطح الماء؛ ولأن كل فلسفة دلوز هي فلسفة (سطوح، وسطوع) فإنها وجدت في السينما مساحة لاستعراض الألعاب المفهومية في المسافة والزمن والتقطيع، والمفهوم الذي هو عصب فلسفة دلوز مثل الصورة له تاريخه ونموّه، وفي جوفه يحمل احتمالات الفعل والعطل، ودلوز مشهور بدراساته حول الفلاسفة الذين يأخذهم كأقانيم يختبر من خلالها مفاهيمه، كما في كتبه الشهيرة التي أفردها لنيتشه وكانط وديفيد هيوم واسبينوزا. كتب مستقلة تشرح فلسفة الاسم موضع البحث بنفس مستوى شرحها فلسفة جيل دلوز؛ فهي فلسفة قراءة، ومخاتلة، ومباغتة، وإعادة تعريف.
على الصعيد (السينمافلسفي) فإذا قرأنا كتاب جيل دلوز الثري «سينما الصورة، الحركة والزمن» نجد تطبيقاتٍ سينمائية على التعريف الدلوزي للفلسفة؛ إذ الأشياء بالنسبة إليه هي «إمساكات كليّة موضوعية، بينما إدراكات الأشياء هي جزئية ومتحيزة وذاتية، وإذا لم يكن الإدراك الطبيعي نموذجاً للسينما، فلأن حركيّة مراكزها وتبدل كادراتها دفعا بها دائماً إلى استعادة مناطق لاممركزة واسعة، ولم تضبط لقطاتها، عندئذٍ تسعى إلى بلوغ النظام الأول للصورة - الحركة، أي التبدل الشامل والإدراك الكلي والموضوعي المنتشر».
بمعنى ما، فإن السينما تحوي مساحاتٍ شاسعة تتحرك فيها الهوامات والشبه، وتخلق فيها المفاهيم كالعرائس، فالفيلسوف - كما يعبّر دلوز - لا يكون فيلسوفاً إلا إذا صارت «اللافلسفة» أرض الفلسفة وشعبها، هنا تصنع المعرفة السحر حين تغزو المجالات الأخرى باحثة وفاحصة، وفي محاضرة له تحدّث الفيلسوف عن سر اهتمامه بالسينما محاولاً البحث في الحافز على ذلك، غير أنه لم يجب بشكلٍ قاطع؛ مما يجعل فلسفته وطبيعة تعريفاته تجذبها الحالة البصرية السينمائية فهو مراوغ مغامر، يسكن الفلسفة، لكنه يريد الهجرة إلى السينما، لكنها هجرة متخيّلة؛ إذ كان وعاش ورحل وهو أهم فلاسفة عصره على الإطلاق، تلك ومضة عن سحر قاعة السينما وشاشتها؛ إذ تحتوي على غرائب دلالية مفاجئة.